يرى فلاسفة القيم، والتيار الحيويّ الذي يمثله سبينوزا ونيتشه ودولوز وغيرهم، أنّ الأفكار وحدها لا يمكن أن تحقّق ذاتها، ووجوها من دون فضاء مستعدّ يقبلها، ويتفاعل معها، ويستجيب لندائها؛ فالحقيقة، -على سبيل المثال- عندهم زمانيّة في وجودها، إي أنها مسار يحدث، لا معطى يتأمل، إذ إنّ حقيقة الأشياء تظهر في كونها علاقات وتلاقيات وروابط تؤسس للحقيقة المأمولة، فكلّ موجود، إذن، هو علاقة وليس جوهرًا سرمديًّا. إنّ أساسَ كلّ مشكلة حضاريّة داخليٌّ في المقام الأول، ولا يمكن أن يحلّ حلّا حقيقًا إلا بدءًا من بنيته نفسها، من هنا فإنّ التعويل الحقيقيّ على النهوض المجتمعيّ والحضاريّ لا يُكتب له النجاح إلّا إذا انطلق معتمدًا -بعد الله جلّ جلاله- على الداخل المكين، وعلى العزم المتين، وبهذا جاءت رؤية المملكة العربيّة السعوديّة 2030 بوصفها خيارًا حضاريًّا يشدّ عراها عرّابها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، مستندة في مقوماتها إلى عناصر القوة في الوطن بتراثه العريق، وحاضره الزاهي، فجاء أحد محاورها الرئيسة بناء مجتمع حيويّ، وبطبيعة الحال كان للمرأة التي تشكّل نصف المجتمع حضورها الرصين، ووظيفتها البانية في المجتمع الحيويّ المنشود في الرؤية الحضاريّة. فجاءت الخطوات متلاحقة لغاية تعزيز مكانة المرأة السعوديّة، وتمكينها في مجتمعها عبر صدور عدد من القرارات، والتشريعات، والأنظمة التي أسهمت في اطلاعها بوظيفتها الجوهريّة في البناء المجتمعيّ، فأمست شريكًا مؤثرًا في التنميّة الوطنيّة في جميع المجالات مثبتةً قدرتها ومسؤوليّتها في كلّ ميدان عملت به، وفي كلّ منصب شغلته. من أبرز منطلقات رؤية 2030 الفكريّة، إيمانها بأنّ رؤية الدولة إلى مستقبلها ينبغي لها أن تنطلق من مكامن القوة فيها؛ لذلك كان الإيمان بوعي المرأة السعوديّة، وكفاءتها في ميادين التنميّة المجتمعيّة منطلقًا من إرثٍ حضاريّ للمرأة السعوديّة، وقدرة على الدخول في عالم يشهد في كلّ لحظة تحوّلًا علميًّا وثقافيًّا، ومن هذا الإرث الحضاريّ والعالميّ في تاريخ المرأة السعوديّة حكاية مختصرة حصلت مع الأميرة نورة بنت عبدالرحمن آل سعود -رحمها الله- تبوح بكثير من طيوف الفكر الحضاريّ الذي كان يسكن تفكيرها وتفكير كلّ سعوديّة. ففي نصّ ترويه «فيوليت ديكسون» تذكر أنها في أثناء زيارتها للأميرة نورة، رنّ جرس الهاتف فقامت إحدى الموظفات في قصر الأميرة نورة بالردّ على المتحدّث، وبعد انتهاء المحادثة الهاتفيّة، قالت ديكسون معلّقة: إنّها تنزعج من الهاتف فردت الأميرة نورة: لا، إنّه اختراع رائع، لست أدري إذا كنّا نستطيع البقاء بدونه! فكان ردّها بمنزلة الاستشراف المستقبليّ، وكان تقبّلها لهذا المنجز العصريّ تقبّلًا يبرز عمق وعيها الحضاريّ في زمنٍ كانت أوضاع المرأة فيه صعبة في العالم بأسره، ولا سيما أنّ الحديث كان مع ضيفة إنجليزية قادمة من أكثر البلدان تطورًا في ذاك الزمن. إن ردّ الأميرة نورة يختصر ملمحًا حضاريًّا عريقًا، ووعيًا أصيلًا متجذّرًا في فكر المرأة السعوديّة يبزّ نظيره العالميّ، بهذا كانت رؤية 2030 مستندة في قيمها الحضاريّة والمجتمعيّة والثقافيّة إلى أساس قويّ يؤمن بكفاءة المرأة السعوديّة، ويعي قدرتها على البناء والعطاء، واستعدادها الحضاريّ في الإبداع، والمشاركة الثريّة والمثرية في جميع الميادين والأنشطة، ليأتي اليوم العالمي للمرأة هذا العام، والمرأة السعوديّة في مكانة راقية تليق بها، وفي مشاركة حضاريّة فاعلة في مسيرة بناء الوطن الزاهر، والمجتمع الحيويّ المترابط والمتمسّك بثوابته وأصالته وتفرّده.