كم في هذا الوطن من عبقريات ونوابغ وأفذاذ من الرجال والنساء منهم من ودّع الدنيا ومنهم من هو حي يرزق، فبلادنا زاخرة بالشخصيات المتنوعة التي أبدعت في كل الميادين والمجالات، فذاك عبقري في الإدارة والقيادة، والآخر عبقري في علمه وشعره أو في أدبه، والآخر عبقري في كتابته وبيانه السحري، وهذا عبقري في طبه وبراءات اختراعاته، وأولئك عباقرة في الهندسة والعلوم العلمية، وشخصيتنا من أولئك الذين وهبهم الله العبقرية في الإدارة والقيادة، بل في الأخلاق ورقي التعامل، هو الإداري والقيادي الأديب والشاعر والمُفكر إبراهيم بن ناصر المدلج -رحمه الله- الذي ترك حياتنا هذه قبل سبعة أشهر بعدما اشتهرت عبقريته في بلدته حرمة حينما كان شاباً، فتكشفت وبرزت حينما تولى قيادة مدرسة حرمة الابتدائية، ومن هذه القيادة بدأ يعطي بسخاء ودون حدود لمجتمعه، كان يفرح ويسر حينما يرى شباب بلدته قد تسابقوا إلى العلم والمعرفة وكل ما يطور ذواتهم حسب الإمكانات المتاحة في ذاك الزمن، كان قائداً تربوياً من عباقرة التربية والتعليم مع الإتصاف بالحكمة والرزانة. زوّدني الباحث ناصر بن إبراهيم المدلج بنبذة عن والده، ووجدت فيها جوانب مهمة من حياته على مدى أربعة عقود -تقريباً-، كانت غنية بالثقافة والرياضة والإدارة والتربية، هو قامة كبيرة من قامات الوطن وهو في الذاكرة الوطنية المجيدة. وُلد إبراهيم بن ناصر المدلج عام 1355ه في حرمة، هذه البلدة التي كانت عريقة وراسخة في القدم، فهي من بلاد إقليم سدير، وعاش طفولته وصباه وشطراً من شبابه فيها، وكما هي الكتاتيب النجدية التي أدت دوراً لا يستهان به في التعليم فقد انضم إليها مع الصبية آنذاك، ولما افتتحت مدرسة حرمة الابتدائية كان المدلج من الأوائل الذين تلقوا العلم فيها، ثم كان هناك حدث كبير في سدير ألا وهو افتتاح المعهد العلمي بالمجمعة 1374ه -والذي كان كما قلت في عدد سابق إن هذا الحدث يُعد فتحاً تعليمياً لأول مرة في سدير وما حولها-، فالكثير من طلبة الحلقات العلمية مثل حلقة الشيخ عبدالله العنقري وحلقة الشيخ عبدالله بن حميد وما تلاه من العلماء التحقوا بهذا المعهد، وهناك آخرون أمثال المدلج بادروا إلى الدراسة فيه. علم ومعرفة وأظهر المعهد العلمي مكنونات إبراهيم المدلج -رحمه الله- ومواهبه، حيث تلقى العلم فيه من أساتذة اللغة العربية والبلاغة والعروض، فهو منارة علم ومعرفة، وأذكر أن من أستاذة المعهد بالمجمعة د. محمد بن عبدالمنعم خفاجي الذي درّس شخصيتنا والدفعة التي معه، وأدى المعهد دوراً فعالاً في تنمية الموهبة الشعرية والأدبية والخطابية للمدلج، وكما نعرف أن الأجواء التي يدرس فيها الطالب إذا كانت مشجعة وداعمة علمياً وتربوياً فسوف تنفجر الموهبة، مثل البذر يحتاج إلى سقاية ورعاية حتى ينمو ويؤتي ثماره، كانت إدارة المعهد العلمي بقيادة المربي الحكيم الواعي الشيخ عثمان الحقيل الذي كان من رواد التعليم في المنطقة، وكان من جيل الحلقات والدروس على المشايخ، لكنه كان مثقفاً ثقافة تراثية وعصرية وقارئاً جيداً وداعماً لكل جديد فيه، رقى بعملية التعليم والبرامج والأنشطة غير المنهجية، وبهذا كان المعهد العلمي بالمجمعة إضاءة علمية وتربوية وثقافية. وإبراهيم المدلج درس بمدرسة حرمة الابتدائية، لكن لم يواصل لأنه انضم إلى معهد العلمي ونال شهادته فيما بعد 1380ه، ثم بعد ذلك انتسب إلى كلية اللغة العربية ليواصل دراسته لكنه لم يكمل، ومع هذا فقد تولى مناصب قيادية كبرى لكفاءته. نادي الفيصلي في عام 1377ه تعيّن المدلج بمدرسة حرمة الابتدائية، وهذه أول القيادات التي أوكلت إليه، ومن هذه القيادة بدأت بواكير الإبداع القيادي والتربوي والتعليمي والرياضي، وأسّس مع نخبة من شباب حرمة نادياً داخل مدرسة حرمة الابتدائية أطلق عليه نادي شباب حرمة، وهذا هو النادي الذي أطلق عليه فيما بعد "النادي الفيصلي" الذي وصل للدرجة الممتازة في الدوري السعودي لكرة القدم بجهود شخصيتنا وأعيان بلدته حرمة الداعمين لهذا النادي، طوّر إبراهيم المدلج هذا النادي مع الفريق الذي معه ثقافياً واجتماعياً وتربوياً، وسخّر كل الإمكانات البشرية والمادية والمعنوية للنهوض بشباب حرمه الناشئة والكشف عن المواهب والإبداع لديهم، خاصةً في المجال الأدبي والشعري والخطابي والكتابي، فقد هيأ لهؤلاء الناشئة بيئة ممتازة وراقية وحاضنة، إضافةً إلى الترغيب نحو الإبداع الرياضي واستغلاله في التربية وليس فقط للترفيه، مع أن الترفيه مطلوب في التربية والتعليم، ومن الممكن غرس القيم والأخلاق والمبادئ فيه؛ لأن النفس البشرية وبالذات في سن المراهقة أو قبلها تميل بشدة إلى الترفيه والمتعة والتسلية، فكانت هذه الأمور ليست غائبة عن شخصيتنا في المجال التربوي والتعليمي وهو دائماً طيلة حياته محل أولوياته في العملية التربوية. غرس القيم وبيّن الباحث ناصر بن إبراهيم المدلج في نبذته عن والده جهوده في هذا النادي قائلاً: بعد أن رأى أن الموهوبين في بلدته بحاجة إلى محضن لأنشطتهم ومواهبهم وأن أهالي حرمة كذلك بحاجة إلى نشاط ترفيهي وثقافي ورياضي واجتماعي، قام هذا النادي على جهود شباب حرمة ومدرسة حرمة وطلابها، وكان أبو حافظ -إبراهيم المدلج- المشرف العام على هذا النادي وبرامجه ونشاطاته ورحلاته وتدريباته، مضيفاً: "اهتمام والدي بشباب حرمة يفوق كل الاهتمامات، لشعوره العميق بالمسؤولية تجاه بلدته وأبنائها وأهاليها، هذه المسؤولية تقدمت عنده على رغبته الشديدة في أعمال تعليمية، وهي المسؤولية التي شكّلت الكثير من شعره التي كتبه، خاصةً لأنشطة النادي، كانت نصوصاً تجمع بين الأدب والوعي وغرس القيم والمبادئ الرياضية والوطنية في نفوس الشباب، بالإضافة إلى تنمية مواهبهم وجرأتهم على المسرح، وهي المسؤولية التي جعلته يشارك في رحلاتهم إلى مدن المملكة". أب روحي وعندما برزت جهود شخصيتنا التربوية والرياضية والاجتماعية والثقافية واطلع أهالي حرمة على هذه الإنجازات المؤثرة في أبنائهم، أصبح إبراهيم المدلج -رحمه الله- هو الأب الروحي لهؤلاء الشباب، بل إن كلمته مسموعة عند الأهالي حتى فيما يواجه البلدة من مشكلات، كان من الذين يكون الحل عنده؛ لأنه أتصف بالحكمة والتعقل، مع أنه لا يزال شاباً لكنه شاب في عمر الخمسين عاماً فهو عقلية فذة ملهمة ذو بصيرة، وهو مهاب في شخصيته، وكان شباب حرمة لا يقطعون رأياً إلاّ بعد استشارته؛ لأنه صاحب رأي ودائماً يرضي الجميع؛ لأنه ليس صاحب هوى وصاحب الهوى والغرض لا يمكن أن يكون حيادياً في رأيه ومشورته، لذا في الأمر المستشار مؤتمن، أي أنه يبدي رأيه ويجتهد في أن يكون الأصلح لمن استشاره؛ لأن الاستشارة أمانة، وهكذا كانت شخصيتنا تستشعر هذا وأدت الأمانة في كل الأعمال والمهام التي أنيطت بها. أنموذج تربوي وكانت التربية والتعليم هما العنصرين اللذين بذل فيهما إبراهيم المدلج -رحمه الله- جهوداً استئنائية، كان معلماً ثم أصبح قائداً تربوياً لمدرسة حرمة، لم يدرس النظريات التربوية الحديثة حتى يطبقها على تلاميذه في حرمة، ومع هذا فقد استطاع بذكائه الفطري وقبل ذلك إخلاصه لله تعالى وتوفيق منه أن يحقق الواقع في تطبيق بعض العلم الحديث التربوي وأهمها الفروق الفردية، فليس كل التلاميذ على مستوى واحد في الذكاء، لذلك اهتم المدلج به اهتماماً بالغاً، فكان يولي التلميذ متوسط الذكاء والذي دونه جل جهده التعليمي والتربوي، أما الطالب الذكي فلا يحتاج إلى هذا الاهتمام والعناية، بل سوف يتلقى المواد الدراسية بكل سهولة من معلمه مع التوجيه التربوي لجميع التلاميذ، ولاريب أن هذا الفتح التعليمي في زمن السبعينات الهجري يُعد نادراً من شخصيتنا، وقد انتفع الكثير من التلاميذ بهذه الطريقة في تقويم الضعف والقصور في تلقيهم المقررات الدراسية، فالعملية التعليمية تعتمد على المُعلم والمُقرر والتلميذ والوسيلة التي تعين وتسهل أداء الشرح والإيضاح، فشخصيتنا أنموذج تربوي وتعليمي متكامل في زمنه وبمستوى بدايات التعليم النظامي في ذاك الزمن، وليته ألّف كتاباً في التربية ونشر تجربته لكل مربٍ ومعلم، فحينما يقرأ كل قارئ تجربة غيره، فهو يضيف عقلاً بل عقولاً إلى عقله، وعقلية المدلج كما قلت توصف بالعبقرية في كل المجالات التي جال في ميدانها وغاص في بحورها. مكتبة عصرية وأخبرنا الباحث ناصر بن إبراهيم المدلج في نبذته عن والده أن من الإنجازات المحسوسة التي تمت على يد إبراهيم المدلج -رحمه الله- هو أنه أسّس مكتبة اسمها (العصرية)، وهذا الاسم ليس مجرد اسم أجوف أو برّاق، بل هو اسم طابق مسماه، بحيث تكون الغذاء الثقافي التراثي والعصري، ولعله جلب إلى هذه المكتبة المجلات الثقافية التي كانت تصدر مثل المنهل والعربي، وكذلك المجلات الثقافية العربية التي تصدر إبان عصر المجلات الذهبي العريق، فالمجلات كان لها سوق رائجة، والمثقف والقارئ لابد أن تكون هذه المجلات هي صبوحة وغبوقة، لهذا أدرك "شخصيتنا" ما تمده هذه المجلات من مواد ثقافية، فاشترك في هذه المجلات ليمد العصرية، وكان أخوه المربي مدلج له سعي ظاهر في هذه المكتبة العصرية، كان المكان المناسب لهذه المكتبة نادي شباب حرمة، وكما قلت شخصيتنا في قيادته للنادي جعل نصب عينيه تغذية العقل بالعلم والثقافة والعناية بالرياضة التي هي قوة للبدن ووقايته من الأمراض والعلل، وقوة البدن هدف من أهداف التربية والتعليم. وكانت الثقافة لدى إبراهيم المدلج -رحمه الله- ليست كثرة القراءة وإدمان النظر في الكتب، بل الثقافة هي أن تكون هذه المعلومات واقعاً ملموساً في سلوك القارئ، وأن يستفيد مما يقرأ وليست فقط يتسامر بها في المجالس والأندية، فشخصيتنا كانت تركز على السلوك والأخلاق وأن الهدف من القراءة بل هو الهدف الأسمى هو تهذيب الخلق والتعامل مع الآخرين بأسلوب حسن، وأن المثقف عليه مسؤولية كبيرة نحو مجتمعه الصغير وهو أسرته، ثم مجتمعه الكبير وهو المجتمع الذي يخالط الناس فيه، وكان من القرّاء ذوي المهارة الفائقة في كل ما يقرأ يطالع ليطور من ذاته وأسلوبه في الحياة، يطالع كل ثقافة جديدة ويقرأ الصفحات الرياضية وكانت من اهتمامه؛ لأنه قائد رياضي منذ أن كان في بلدته حرمة وهو ناقد رياضي حصيف ولماح. مرحلة ذهبية ومنذ أن تولى إبراهيم المدلج -رحمه الله- إدارة مدرسة حرمة وهو في نجاح حتى جاء عام 1383ه انتقل بعدها إلى مدينة الرياض حيث المركز وزارة المعارف، واستلم عدة إدارات كما ذكر الباحث ناصر المدلج عن والده، وقد ترأس إدارة الترقيات والعلاوات بالوزارة، ثم بعد ذلك كان "شخصيتنا" قد تعين بمعهد العاصمة بالرياض النموذجي مديراً للإدارة، لكن الشهرة الإدارية كانت عندما تعين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تلك الجامعة الفتية التي كانت تسمى إدارة المعاهد والكليات، ثم أصبحت جامعة وتاريخ التعيين عام 1396ه، وقد تعين بالجامعة مديراً لشؤون الموظفين، ثم مديراً للتخطيط والميزانية، ثم وكيلاً مساعداً بالمرتبة الرابعة عشرة، ثم وكيلاً للجامعة بالمرتبة الخامسة عشرة على مسمى وكيل للجامعة للشؤون الإدارية والخدمات، كانت هذه المرحلة من تاريخ إبراهيم المدلج الإدارية ذهبية وأثبت براعته الإدارية لمؤسسة تعليمية، هو مرجع ومصدر للأنظمة المتعلقة بالموظفين، وقد ألّف مذكرة بهذا الموضوع، وكان حازماً في عمله في كل الإدارات والقيادات التي تعين عليها، تواجهه كثير من المشكلات المعقدة والصعبة فيكون الحل والعلاج لدى شخصيتنا بيسر وسهولة وبراعة، وقد كان من ضمن اللجنة التي تشكّلت لوضع التخطيط الإداري والتنظيمي لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد اختاره د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي وبعد أن تقاعد من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية انتقل إلى وزارة الشؤون الإسلامية ليكون المشرف العام على مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ومستشاراً للوزير د. عبدالله التركي ثم الشيخ صالح ال الشيخ. حياك القلم وأُعجب إبراهيم المدلج -رحمه الله- بالشاعر المصري حافظ إبراهيم وتأثر به، لذلك سمى ابنه البكر "حافظ" وكنّي بأبي حافظ، والمدلج من الشعراء المُجيدين، وقد ترجم له عبدالكريم بن حمد الحقيل في كتابه (شعراء العصر الحديث في الجزيرة العربية) وأورد نماذج مشرقة من شعره، ومن شعره نختار هذه الأبيات التي نظمها واختارها لنا ابنه الباحث ناصر المدلج، وهي من الرباعيات الوطنية: جبل التوباد حياك القلم وأشرأبت نحو مغناك القمم شاهد أنت على أولى الخطى لبناء المجد في أسمى الأمم يوم هد الصقر حراً فاتحا صارم الضربة مصقول الشمم وبناها في -ظلال الشرع- صرحاً ثابت الأركان خفاق العلم وله قصائد كثيرة متنوعة في مناسبات متعددة، وقد كان أن يترك الشعر لولا أن الشيخ المربي عثمان الصالح جمع مختارات من شعره ونشرها في مجلة المنهل وأثنى عليه بمقال مطول وكان هذا تأثيراً في عودته للشعر. توفي إبراهيم المدلج بتاريخ السادس عشر من شهر ذي الحجة لعام 1444ه، رحمه الله وغفر له، أشكر الباحث ناصر بن إبراهيم المدلج على تزويدي بالصور والمعلومات عن والده، والشكر موصول للدكتور حافظ بن إبراهيم المدلج الذي تواصلت معه هاتفياً واحتفى بي وتحدث عن والده في بعض المواقف التي تدل على الحكمة والرزانة. إبراهيم المدلج في شبابه بذل المدلج في التربية والتعليم جهوداً استثنائية المدلج من مؤسسي نادي الفيصلي وهنا محتفل مع ابنه حافظ بكأس الملك قصيدة بلادي لك الحُب للمدلج كانت كلمته مسموعة عند أهالي حرمة فيما يواجههم من مشكلات