ماذا إن أردنا الكتابة عن شخصين بعد وفاتهما؟ أحدهما لا نعلم عنه شيئًا، ومن المعتاد ألا تتمكن من الكتاب عنه، بل من المستحيل ذلك، والآخر شخص قريب منا، لكننا نعجز عن التفاعل مع مشاعر كبيرة تنتابنا بعد مغادرته، ذلك ما يحدث لي مع شخصية الدكتور محمد الهدلق -رحمه الله-، الذي عرفته طالبًا، وزميلًا، وصديقًا، فكان لهذه الدوائر الثلاث، التي مررت بها خلال حياته أثرها في صناعة الحجاب الكتابي، الذي يعيق القلم عن الاستجابة، كما هو الجهل بالشخص يمنعه من التفاعل؛ لهذا كان من الأفضل اجتياز تلك الدوائر، للانطلاق إلى سؤال بسيط: لماذا نحب الهدلق؟ هذا السؤال الذي يصنعه طيفه الحاضر الغائب، الذي يشي بحضوره الدائم في مخيالي، وتؤكده مشاهدتي اسمه يوميًا على باب مكتبه بالجامعة، وفي هذه المشاهدة ما يضاعف الحزن عليه، ويرسخ ضبابية الكتابة عنه. وفي حديث مع النفس عن الوفاء لمن يستحق من أرباب الكلمة والصدق والإخلاص، سنلحظ أن هذا السؤال الافتراضي البسيط لا يليق إلا به، ومع أنه لا يمكن تقديمه مباشرة، فقد كان من الواجب أن نستحث الخطوات، كي نقطع هذه المساحة إلى فضل أستاذنا وكريم خلقه. ومن تلك الدوائر الأولية السابقة التي تكشف العلاقة به، ننتقل إلى أولى الدوائر التي تصل بتخومها في شخصيته بجوانبها الإنسانية والعلمية والإدارية، وفلو انطلقنا من الدائرة (العلمية) التي تضرب بطيفها الذهبي في ذهني؛ إنها دائرة العلم الغزير النافع، المرفق بأدب جم وخلق جامع، كان هذا جلبابه الأنيق البهي الدائم، الذي يرافقه إصغاء من الجميع حين تحدثه، وهدوء وتمعن عند تلقي كتابته، حواراته عميقة مثرية، يقدمها بتواضع يزيده شموخًا، وبتأنٍّ يزيده في المعرفة رسوخًا. وأحمد الله أن أفدت منه شخصيًا في أثناء دراستي السنة المنهجية لمرحلة الدكتوراه، التي لم أكملها في القسم، فغادرت بعدها إلى بريطانيا. لكن محاضراته كان لها صداها الكبير لدي؛ إذ لحظت ذلك التداخل الجميل الذي يعقده بين آراء النقاد العرب في تراثنا مع وجهات النظر الاستشراقية المعاصرة. أما الدائرة الثانية من دوائر تشرفتْ بأخذه بزمامها، فهي دائرة الدقة والصرامة؛ فلا أحد معروفًا بصرامة كصرامته في العلم والإدارة، وأبرز ما في تلك الصرامة أنه يسندها بمحبة شخصية يقدمها للجميع بلا استثناء، وبلائحة قانون جمعية. وعندما يختلف أعضاء المجالس في أمر علمي أو إداري، تكون ذاكرته وطيبته مخرج الاختلاف وانتهاءه لوثوقهم بقوله، ومن ثم مدخل اعتراف الجميع بفضله، وله من فضل الحفظ وفضيلة الفهم ما يقرب اللوائح والأدلة إليه، ويعرضها بأدب مرفقة بابتسامة توقف خوض الخائضين. ومن ملامح صرامته التي لن أنساها أن أحد طلابه الذي يشرف عليهم في مرحلة الدكتوراه أُصيب بوفاة والده، بعد الإعلان عن موعد مناقشته، فاتصل بي الطالب راغبًا في مساعدته، من أجل تأجيل المناقشة أسبوعًا أو اثنين، فالتقيت به راغبًا منه العون في هذا الأمر، فسألني إن كانت الأيام الثلاثة قد انقضت، فأجبته بالإيجاب، فأخبرني أنه عاد إلى الجامعة بعد وفاة والده بعد مرور هذه الأيام الثلاثة، ولن يفيد الطالب التأجيل، بل سيؤخره كثيرًا؛ لأن الأمر سيحتاج إلى موافقات جديدة، تتصل بمواعيد سفر المناقش الخارجي وإقامته، فأخبرت الطالب الذي وافق مقتنعًا بوجاهة رأي مشرفه وأهميته. وأحسب أن الهدلق كان متمثلًا تلك الصرامة مع نفسه، فقد كان أول الحاضرين إلى محاضراته، وإلى اجتماعات قسمه ونشاطاته، وكان آخر المغادرين من قاعات العلم، وأكثر الحضور مشاركة وإثراء فيها. ولم يكن ميالًا إلى نشر أعماله، لولا قيام كرسي الدكتور عبدالعزيز المانع للغة العربية وآدابها بنشر بعض تلك الأعمال البحثية. ومن ذلك أنه كان كثير التفاعل مع طلابه وزملائه، يستجيب لأسئلتهم بكل محبة وإخلاص، وما عرضتْ لي مسألة في التراث فسألته عنها إلا وجدت مشاركته معي في حلها بإجابات مسبوقة باهتمامه، ومتبوعة بطيبة قلبه، متباعدًا عن الفخر بما أنجز، أو ادعاء ما لم يفعل، إن أحالك إلى مسألة لا يحيلك إلى كتابه، أو بحثه، وفوق ذلك هو متطلع إلى كل جديد، ومتابع لفنون الثقافة المعاصرة؛ لذا لا عجب إن أحببنا من كان له الفقد خسارة، وكان له بين زملائه فضل الريادة والصدارة!