شكل الحضور الكبير للباحث والمحقق والشاعر والأديب محمد العيد الخطراوي (1354 – 1433ه) أثراً ثقافياً بالغ الأهمية في المدينةالمنورة والأوساط المعرفية المحلية وبلغ صيتة الثقافي والعلمي مدىً واسعاً، حيث دارت حياته بين أروقة القاعات في بعض الجامعات أستاذاً قديراً لطائفة من الطلاب والمريدين يتلقون عنه أصول اللغة والأدب والتاريخ ومناهج المعرفة، وبين منابر الثقافة التي أبرزت قوته الناعمة محاضراً فذاً يفتح آفاق المعارف لطلابه وشاعراً رقيقاً تنصاع له القوافي وناقداً صلباً يفتق المعاني ويقارع النصوص، ومحققاً ثبتاً ينشد حقائق التراث العربي التليد، ما جعل له اسماً مرموقاً في حراكنا الثقافي والأدبي والتاريخي حتى أضحى معلماً أدبياً بارزاً في المدينةالمنورة ولا مشاحة في أنه أحد أركان النهضة الأدبية في بلادنا -حرسها الله- لذلك أزعم أن العلاّمة الخطراوي لم ينل حظه من الدرس والبحث من قِبل المهتمين بإنجازه العلمي الجبار الذي استهله منذ عام (1381ه) بكتابه (الرائد في علم الفرائض) مروراً بجمهرة من المؤلفات والتحقيقات التي تقترب من (50) كتاباً جاءت عبر دواوين ومسرحيات ودراسات وتحقيقات، فحري بنا أن نضع الدكتور الخطراوي في مكانة تليق ومنجزه العلمي والثقافي. رحلته العلمية: ولد الدكتور محمد العيد بن فرج الخطراوي بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وحين بلغ مرحلة التعلم في صباه ُألْحق بالمدرسة فأنهى تعليمه العام (الابتدائي والمتوسط والثانوي) بالمدينةالمنورة، ثم دخل مرحلة الطلب العليا فارتحل صوب تونس وانضم لجامعة الزيتونة ليتخرج فيها عام (1374ه) ومنها عاد لوطنه ليعمل في سلك التعليم مدرساً في مدرسة العلوم الشرعية، ثم اتجه نحو نجد ليكمل دوره في أداء رسالته في التعليم فدّرس بمعهد المجمعة العلمي ثم بمعهد إمام الدعوة بالرياض ثم مدرساً بكلية الشريعة عام (1383ه)، ولعشقه للعلم وحبه للمعرفة لم يكتفِ الشاب محمد العيد بهذا النصيب من العلم إذ التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ليحصل منها على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، ولكونه من عشاق التاريخ ارتأى أن يندرج طالباً بقسم التاريخ في جامعة الملك سعود. عاد أستاذنا الخطراوي للمدينة المنورة مرة أخرى معلماً بمدرسة طيبة الثانوية حتى أضحى وكيلاً لها، فعهد إليه المشاركة في تأسيس ثانوية قباء مع نفر من ذوي الخبرة وبعد تأسيسها ظل مدرساً بها حتى عام (1400ه)، وفي أثناء هذه السنوات توجه إلى القاهرة ليلتحق بجامعة الأزهر وينال منها درجة الماجستير في اللغة والأدب عام (1395ه)، وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد الخطراوي للقاهرة تارة أخرى ليحصل على درجة الدكتوراة في اللغة والأدب عام (1400ه) من الجامعة نفسها، بعدها انضم للجامعة الإسلامية ليكون أحد الأكاديميين بها ثم انتقل إلى هيئة التدريس بكلية التربية التابعة لجامعة الملك عبدالعزيز، إلى جانب إشرافه على عدد كبير من الرسائل الجامعية ومناقشة بعضها. ومن خلال مشواره العلمي الطويل كان للأديب الخطراوي وجود ثقافي بارز من خلال ما ينشره من قصائد ومقالات في الصحف والمجلات وما يقدمه في الإذاعة والتلفاز من برامج توعوية امتازت ببث الأدب والثقافة بين صفوف المجتمع، وأذكر من بعض برامجه: (بين شاعرين) و(رحلة في كتاب) و(نافذة على الفكر والثقافة)، ناهيك أنه ذو علاقة وطيدة بالمؤسسات الثقافية حيث كان عضواً فاعلاً بمنتدى أسرة الوادي المبارك التي ألف عنها كتابه (أسرة الوادي المبارك في الميزان) أحاط فيه بجهود الأسرة في علو شأن الأدب والثقافي في المدينةالمنورة وأبرز نشاطاتها وإسهاماتها وحدد توجهاتها إلى جانب مشاركته في تأسيس نادي المدينةالمنورة الأدبي عام (1395ه) وبعد سنوات قليلة اختير نائباً لرئيسه، كما عُهد إليه رئاسة القسم الثقافي بجمعية الثقافة والفنون بالمدينةالمنورة. الرسم بكلمات المحبة: كانت المدينةالمنورة تشكل للخطراوي الشيء الكثير، فهي ألهمته القوافي الحسان، وهي التي عرّفَتْه على أعلامها العظام، بل أغرته بتاريخها المشرق والعريق ليكتب عنها رباعيته التاريخية المهمة (المدينةالمنورة في العصر الجاهلي - الحياة الاجتماعية) و(المدينةالمنورة في العصر الجاهلي - الحياة الأدبية) و(المدينةالمنورة في صدر الإسلام - الحياة الاجتماعية) و(المدينةالمنورة في صدر الإسلام - الحياة الأدبية)، إضافة إلى كتاب يؤرخ لحركة التعليم الأهلي المبكر في طيبة وهو كتاب: (مدرسة العلوم الشرعية بالمدينةالمنورة - الموقع التاريخي الرائد)، وهي في حقيقتها قلعة علمية باذخة أنشأها العالم أحمد الفيض أبادي فساهمت بنهضة علمية كبرى بين أبناء المجتمع المدني، إلا أن أديبنا الخطراوي لم يكتفِ بهذه المصنفات عن محبوبته المدينة بل راح يدّون لسير رجالاتها الأفذاذ من كبار أدبائها، فتعقب شخصيات لعبت دوراً كبيراً في نشوء الأدب والثقافة بعاصمة الإسلام الأولى فذهب يرصد مقالاتهم وأشعارهم وبحوثهم وما كُتِب عنهم بكل صدق ونزاهة، ورجع إلى بطون الصحف والمجلات إلى جانب ما يحتفظ به عند أُسَرِهم وأبنائهم، ليخرج أسفاراً موثقة عن هؤلاء فأضاف للمكتبة المدينية هذه الكتب: (محمد سعيد دفتردار.. مؤرخاً وأديباً) و(محمد عالم أفغاني.. من رواد المقالة والترجمة والقصة) و(عبدالرحمن عثمان.. مبدع الشعر ومنجب الشعراء)، ناهيك لتحقيقه المهم لكتاب (شهي النغم في ترجمة شيخ الإسلام عارف الحكم) لمؤلفه أبي الثناء الألوسي، حيث يقوم هذا الكتاب على إظهار الدور الثقافي والتنويري الذي قدمه حكمت من خلال مكتبته الضخمة ذات الكنوز العلمية المتنوعة والتي كانت محجاً لطلاب العلم ومقصداً للباحثين، مع تتبع رحلاته بين إسطنبول والقدس والقاهرة والمدينتين الأخيرتين تولى فيهما منصب القضاء إلى جانب إجازته في الحديث النبوي وحفظه للمتون وحذقه للغات العربية والتركية والفارسية، وما صنف من مؤلفات وأشعار. ومن خلال بحث الخطراوي الدؤوب وتقصيه الدائم في المكتبات العامة والخاصة تَهَدّى إلى كوكبة من شعراء دار الهجرة عاشوا في عصور خلت كانوا في أزمانهم شعراء لهم حضورهم في الحياة الأدبية بالمدينةالمنورة متفاعلين مع قضاياها، فلمس باحثنا الخطراوي في قصائدهم ضوءاً من جمال وبصيصاً من إبداع فعكف على تحقيق دواوينهم لا سيما وأنه ذو باع طويل في دولة الشعر، إذ أذكت قريحته العديد من القصائد التي أودعها جمهرة من دواوينه، لذلك فحسه الشعري لا يشك فيه ومقدرته سامقة في عالم العروض والقوافي، فعرف المتلقي من خلال جهوده الكبيرة دواوين الشعراء: (محمد أمين زللي - عمر إبراهيم البري - إبراهيم حسن الأسكوبي - فتح الله بن النحاس)، وجاء دوره في هذه المخطوطات قراءة الخبير المتمرس، حيث قارن بين أصول كل مخطوطة مع ما يجده من صور لها في مكتبات أخرى التي وقف عليها، ثم مبرزاً ملامح عصر كل شاعر، ودارساً بتمعن قصائدهم وما تضمه الأبيات من سمات تقترب من التجديد، ومنوهاً بأهم الأغراض الشعرية التي سادت في عصورهم وهو بهذا الفعل يلفت الأنظار إلى كنوز غائبة كانت في حكم المفقود. الخطراوي والتراث: حين اتخذ العلامة الخطراوي من التعليم حرفة له كان لزاماً عليه أن يكون خدين الخزائن والمكتبات يمضى فيها ساعات مسائه منقباً في أصول مصادر التراث وباحثاً فيه، ما جعله يعود عليه بالعلم الغزير والثقافة الواسعة فانعكس ذلك في جملة كتاباته، فتراه يخرج ثلة من إصداراته تضم تحليلاته عن بعض القضايا التراثية، أو يدرس شيئاً من الظواهر الأدبية التي سادت في العصور الماضية، أو يكتشف ملامح فنية في قصائد شعرية أو يعثر على جوانب اجتماعية دونتها كتب التراث، ولو تصفحت بعض هذه الكتب لرأيت غوصاً في التفكير وتدفقاً في المعنى وعلواً في الصياغة خالية من التقعر والالتواء مثل كُتب: (الأفاشير) و(الشيب في الشعر العربي) و(في محاورة النص) و(آفاق وأنفاق) و(قراءة في دفاتر بعض الحمير) و(متابعات ومبادآت) لهالَك ما درسه من مصادرنا القديمة وما خط قلمه عنها. القيمة والرمز: لم تكن تجربة الخطراوي الثقافية الطويلة موازية للدراسات التي قدمت عنه رغم كثرة طلابه وتعدد ممارساته الكتابية وحضوره الإعلامي الواسع وهذا ليس رجماً بالغيب، إذ لم يشفع لنا البحث سوى بكتاب واحد قدمته مشكورة الناقدة الدكتورة أسماء أبو بكر وهو (جماليات التشكيل التخالفي في شعر الخطراوي) والذي انطوى على دراسة فنية لشعره، إضافة إلى صنيع تلميذه البار ومريده المحب له الناقد الدكتور محمد الدبيسي حين جمع كل ما كتب عنه وأودعه سفره المهم: (الخطراوي في آثار الكاتبين)، ولا ننسى ما خطه جملة من النقاد عن رحلة الخطراوي مع الحرف والكلمة ومن هؤلاء: نذير العظمة ومحمد الشنطي ومحمد شراب وعبدالله عسيلان وحسين بافقيه وعالي القرشي وعبدالله الحيدري ومحمد البليهشي وعاصم حمدان ومسعد زياد وعبدالملك مرتاض وآخرين. تُوِج أديبنا الخطراوي بالتقدير غير مرة، إذ حاز على جائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز التقديرية للرواد في تاريخ الجزيرة العربية، وكذلك فاز بجائزة أمين مدني في تاريخ الجزيرة العربية، إضافة إلى تكريم منتدى الاثنينية له ودرع تكريم الشعراء من وزارة الثقافة والإعلام. رحم الله عاشق إرث المدينة النبوية الذي رحل مشيعاً بالدموع والآهات من قِبَل محبيه من طلابه وذويه على جهوده الضخمة التي أبرزت ما تضمه هذه المدينة الفاتنة من مباهج الجمال والإبداع والجلال. د. محمد العيد الخطراوي