ارتسمت ملامحه منذ القدم وانبرى إليه الشعراء مستعرضين فصاحتهم المفتولة وجزالتهم المسبوكة، إذ يعد فناً أصيلاً وعريقاً، توشّى بسرعة البديهة وحدّة الفخر وشراسة الهجاء، ليسمى «شعر النقائض» ويكسب جمالية فائقة وقيمة فريدة من خلال هدم المعنى بالمعنى؛ مستمراً طوال قرون في إثراء الساحة الأدبية وصولاً إلى وقتنا الحاضر. ويحفظ الأدب العربي ملاحم شعرية جرت قبل الإسلام، دارت بين فخر الشاعر بنسبه أو منجزه وبين الانتقاص منه من قِبل شاعر آخر، مما شيّد ساحات توازي ميادين المعركة؛ يتبارى بها الشعراء ويرد بعضهم على بعض. ثم زها هذا الفن الشعري وعظم أمره في عصر بني أمية، وقد كان سوق المربد في البصرة مسرحاً لنقائض الشاعرين ذائعي الصيت جرير والفرزدق، حتى أن الناس آنذاك يتحلقون على الشعراء ويتابعون النزال، مدهوشين بما يدلون به، ومن المواقف الشهيرة التي تصادف بها جرير والفرزدق؛ هي مشاهدة الأخير للأول وهو ذاهباً إلى الحج، فقال له: فإنك لاقٍ بالمشاعر مِن منىّ فخارا فخبّرني بمَن أنتَ فاخرُ وانتظر جرير أن ينتهي من مناسك الحج، ليرد قائلاً: ما للفرزدق من عزّ يلوذ به إلا بني العم في أيديهم الخشَب سِيروا بني العمّ فالأهوازُ منزلكم ونهر تيرى فما تدريكمُ العرب وواصل شعر النقائض توهجه، واستكمل يحث الشعراء ويجذب المتذوقين، لينبثق منه فن المحاورة؛ المحفوف باعتناء السعوديين الذين يحتشدون في فضائه محدقين في المتنازلين ومصخين إليهما أثناء تعاركهم بأحسمة الكلام الموزون، كما أنهم يحفظون روائعه ويتناقلونها، ويبجلون رموزه ونخبه ويبدون لهم الاحترام والتقدير. وفي هذا السياق؛ واهتمام المجتمع بالشعر بأشكاله وفنونه المختلفة، وشّحت وزارة الثقافة عام 2023 بمسمى «عام الشعر العربي» وأطلقته مبادرة سامية تصنع البرامج والفعاليات طيلة العام. وقد تمكن هذا الفن الأصيل من التباهي بنوابغ شعرية لهم الفضل في ترسيخ أطنابه وتشكيل فحواه وإذاعة إبداعاته، منهم الشاعران صياف الحربي ومطلق الثبيتي، اللذان اجتمعا غير مرة، وفي محاورة لهما استهلّها الثبيتي قائلاً: سلام رِدّيّه سِواة الزّهُور ما تَنبِتَ اَلاّ في رِبُوعَ الشّفا يالله تِزيدَ النّور ذا اللّيل نُور وِلْيَا صِفا خَصمي ضِمِيري صِفا وأجابه صياف قائلاً: يا مرحبا يا بَحرِ بين البحُور نَنشِد عَنَ الغايب وتَوّه لِفَا يا طَيرِ وَينَ اغدَيتِ رِيشَ الطّيُور ضَيّعتها فالبَردِ وَالاّ الدّفا ومن الشعراء ذوو العلامة الفارقة في ميدان المحاورة، عبدالله المسعودي ومحمد الجبرتي، وفي محاورة لهما قال بها الجبرتي: خيركم يصدم بخير وشركم يصدم بشرا ارزمي يالمرزماتي واصهلي يالصاهلاتي انت ياعبدالله اللي شايل كتابك مغرا ماتعرف اللي كتب لك فيه من قصة حياتي ورد المسعودي قائلاً: مانويت الليله اكشف عنك يالبيت المذرا وان عرض باطنابه العرضه دعسته بعجلاتي شفت فيه مدرسين وشفت به ناس تقرا مير انا الليله نويت اقضي على ذيبك وشاتي فيما تُعرف محاورات ويتداول متذوقي الشعر تفاصيلها نظير اجتماع عمالقة الشعر بها، مثل محاورة الشاعرين عبدالله بن شايق وفيصل الرياحي، التي قص شريطها ابن شايق صادحاً: مراحب وارحبوا يا مرحبا ترحيب شوقٍ حار أحط ايدي على العله واداويها واعالجها انا والله ما أبسط لين أثور عجة الشعار واشوف الملعبة يكتظ داخلها وخارجها ورد الرياحي بقوله: يدوم لك البقاء دام البقا عند اللقاء ما بار لنا منهج ونعرف عادة الناس ومناهجها ليا حصلت لك بستان حول وأقطف الازهار ترى العربان تقدر تحرجك قدام تحرجها مطلق الثبيتي فيصل الرياحي عبدالله بن شايق صفوف محاورة