إن وعي الإنسان بذاته وجوهر كينونته لا يزال متخندقاً بين الماضي والمستقبل كانعكاس باحث عن نور الحقيقية السرمدي، قد ينزح للنهوض والانتصار في معركة الحياة، ويتساءل: أين أنا من ذاتي؟ وأين أنا من أناي؟ ما المكان الذي أجد فيه جوهر ذاتي هذه الهوية المحيرة؟ ما أعمق مخاوفي؟ ما الذي يقلقني عندما أفكر بالمستقبل؟ هكذا هو الإنسان منذ دهور سحيقة وهو يعيش في قبضة الألم باحثاً عن نعيم الحياة، فدخل بقدميه محراب الزمن والعقل وفقد مع الوقت الشعور بكينونته الحقيقية، وصور له عقله غرابة العالم الذي يعيش فيه كأنه يقف على أقتاب الحياة يتشظى محموماً لا ينفصل النقيض عن النقيض في وعيه. إن الأنا والذات في صراعهما الدائم مع العقل قد تقول لنا: (لا تقرأ بالعقل فقط، ابحث عن شعور الإدراك النابع من داخلك)؛ فالعقل يعمد دائماَ إلى فرض سيطرته على الوعي والاستبداد بالشعور وإخراجه من كينونته الحقيقية؛ حيث نجد أن كثيراً من النقاد ينكرون أن الفكر هو نتاج لوظيفة الدماغ، وأن البشر ما هم إلا آلات بيولوجية، والموسيقى اهتزاز الهواء، هذا النقد الفجّ المريع إنما هو إسقاط واهٍ في عبثية الحياة وتدليس للحقائق، فالبشر منفردون عن غيرهم من الكائنات الكونية بذوات تاريخ شخصي، يملكون شعوراً بوجودهم من خلال الامتداد في حيواتهم بين ماضيهم ولحظاتهم الآنية. إن الحقيقة كامنة في داخلنا، فما هي كينونتها؟ وماذا نعني بها؟ شرح اكهارت تول أن الكينونة هي الحياة الواحدة السرمدية الحاضرة في أشكال الحياة والخاضعة للولادة والموت، تكمن داخل كل شكل كأساسه غير المرئي وغير قابل للفناء. وبناء على ذلك لا بد لنا من إغفال العقل ودوره السيادي في ذواتنا الداخلية للوصول إلى جوهر الحقيقة؛ تلك المنطقة الواقعة بين السكون والتنوير وبين الشك واليقين، فعندما يصمت العقل عن التفكير يقودنا الى جمال آخّاذ وروح تطفو في عالم السكون الداخلي لذات الفرح الطفيف والنشوة العارمة والسلام الدائم. ويكشف حقيقة الزمن بأنه وهم، فما تراه ثميناً في حياتك ليس الزمن بل النقطة الوحيدة الواقعة خارج الزمن (الآن) من أجل الوقوف الجاد على قضية الأنا والعقل لا بد لنا من تحرير أنفسنا من عبودية العقل، كأداة استولت علينا وذلك من خلال مراقبة الفكرة كشاهد على وعينا وخلق فجوات قصيرة من اللاعقل، وهي حالة طبيعية تحيلنا إلى التعمق بالإحساس والسكون لدرجة النشوة. إن اللاعقل هو الوعي دون تفكير وهذا هو جوهر الذات حيث تصبح كل خلية من خلايا جسدنا حاضرة وتنبض بالحياة، كنسيم الهواء عندما يتراقص على سطح الماء أو بكاء أوراق شجرة الصفصاف في يوم شتوي عاصف، عندها فقط نتحرر من عبودية الزمن والعقل، ونص عبارة ابن سينا: (ولو توهمت أن ذاتك قد خلقت أول خلقها صحيحة العقل والهيئة لا تبصر أجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شي، إلا عن ثبوت آنيتها)؛ بمعنى أن العقل والزمن لا ينفصلان بالواقع، ويجد في الآن تهديداً له. إن ما نسميه سيناريو شخص ما، هو الحالة الطبيعة الدالة على اختلافنا عن الآخر، وهذا ما يؤكد علاقة الذات بالواقع الشخصي لارتباطاتنا المتعددة في الحياة الاجتماعية، فما نحن إلا جزء صغير من الصورة الأكبر والإطارات المختلفة لسيناريوهات الحياة المتطرفة بصور سريالية بوهيمية في لحظة وأخرى منتظمة كواسطة العقد الفريد، أحياناً نكون (لا أحد) أو (شخص ما) وأخرى ( أيّ شخص)، يقول وليام جيمس: (إن للإنسان العديد من الذوات الاجتماعية). ووفقاً للنظرية البرجماتية لميد لا بد لهذه الذات أن تأخذ دورها في الصعود مع العقل والقدرة على التماثل الآني، حيث يبدأ الإنسان بالتفكير والوعي بجوهر ذاته من خلال نفسه ومن خلال عيون الآخرين في مجتمعه، فيسعى للكشف عن الصلة بين السبب والنتيجة، والوهم والحقيقة. إن الأمر في غاية البساطة والوضوح؛ فمحاولاتنا الجادة في فهم ماهية ذواتنا والوصول إلى محطات السلام والفرح وبهجة الحياة لا يستوجب بالضرورة إلا تغيير ما نفعله والبحث عن الكيفية، وهي الأهمية الكبرى لما نفعل وليست الغاية المرجوة، فما علينا الا أن نمجّد اللحظات الراهنة الآنية في حياتنا والتوقف عن رصد النتائج والتوقعات والتحرر من الزمن بقصد التحرر من الحاجة لماضينا أو غيب مستقبلنا.، وهذه أعلى درجات الوعي بالذات وأبرز دليل على تعاملنا مع تحديات الحياة، ومعرفة الله تعالى بيقين العابد المتصل بجوهر وعيه الإيماني؛ فإذا كنت حاضراً بوعيك مراقباً دون النقد والحكم فستتعامل مع الماضي وتذيبه عبر قوة حاضرك. وهذه هي قوة الكينونة وتجلياتها الفريدة كن: ( واعياً بإحساس الصمت قوياً بالوجود)، فلا يوجد تفكير دون وعي، بينما يحتاج الوعي للتفكير.