عندما بدأت تجاربي مع الموسيقى في عام "2017"، كان محور بحثي -بجانب المفاهيم الفلسفية للموسيقى- ذلك التأثير الغامض الذي تتركه الموسيقى في الإنسان والتي لا يرفضها العلم مع أنه عاجز عن تفسيرها. كنت حينها مدركاً لأمر واحد – ومازلت- وهو أن الموسيقى شيء لا يمكن وصفه بالكلمات، وما لا يمكن وصفه بالكلمات لا يمكن أدراكه إلا بالصمت؛ "فكما أن الشعر يبدأ حيث تنتهي المعرفة، فكذلك الموسيقى تبدأ حيث ينتهي الكلام". لذلك خلق الإنسان الفن منّذ كان في كهفه الأول واستعان بالفحم المحترق وبقايا الصخور محاولاً تجسيد مشاعره الغامضة على صخورها وجدرانها. اليوم ونحن على إبحار عام "2024" كانت ليلة اليوبيل الماسي للفنان محمد عبده على الضفّة، كما نقول "في مجلسٍ مافيه نفسٍ ثقيلة" هناك في زاوية الديوانية وعلى غير عادته يجلس صديقي حمود متكئا على خده الأيمن في صمت ثقيل. وش فيك يا حمود؟ منت عاجبني اليوم! هز رأسه في استسلام حزين وقال: أبو نورة! (جمرة غضى..) كانت تتسلل عبر محادثتنا السريعة ونحن نشاهد الحفل عبر البث التلفزيوني، أدركت حينها بأن الأغنية قد أيقظت فيه ذكرى قديمة. فاخترت الصمت في حضرة الألم الذي يقاومه حمود، ألمٌ يصاحبه نوع من الدلال الغامض، وبنبرة كالموج الهادر يعلو صوت محمد عبده "بردااااااان" فيرتجف صديقي حمود دون حول منه ولا قوة. كانت درجة الحرارة في الرياض قد بلغت 17° ولكن ليس بالنسبة لحمود! "كيف نخفي حبنا والشوق فاضح"! الله يسامحك يابونورة. ثم يمهسُ قائلاً "وليل الشتا القاسي الطويل. وآه يا الحنين. لليل باب له حارسين. برد وسحاب". ابتلعت رغبتي في أن أقول له استسلم لفيض قلبك الملتاع ولا تتماسك؛ ذلك موقفٌ أصيلٌ جداً أو بوصفة كلثومية المعنى "هل رأى الحب سكارى مثلنا" يا صديقي! في تلك اللحظة وصلتني صورة عبر الواتساب، زميلتي ليلى تعلّق قائلةً "أبو نورة شاب راسه يا أبكر" اكتفيت بالصمت لأنني في تلك اللحظة لم أجرؤ على مخالفة الغزالي الذي ظل يطرق همساً في الذاكرة "من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج" وأبو نورة ما شاب راسه يا ليلى، أبو نورة "أقمر ليله" كما تقول العرب، وأنا سمعته يقاوم العمر باستعارة جاسم الصحيح إذ يشدو: "ولكنِّي وإنْ ثَقُلَتْ سنيني عليَّ، وصارَ هذا الطينُ كَهْلَا ذبحتُ العمرَ بالآمالِ حتَّى ... عبرتُ بسُكَّةِ (الخمسينَ) طِفلَ" يقول ميشيل دي مونتين في "المقالات": "لا يوجد شيء أكثر تميزاً في سيرة سقراط من أنه وجد الوقت، وكان حينها طاعناً في السن، لتعلم الموسيقى والرقص، وأعتقد أنه قضى وقتًا ممتعا فيما تبقى من حياته." فكيف إذا قضى من العمر ستين أغنيةً ترنمت بها أجيالٌ وأجيال. "فلا تسألينيَ ما ترجُوه أغنيتي .. بعض الطّيورِ تغنِّي وهي تحتضرُ" 3 ساعات وهو يغني! قاطعنا صوت صديقي محسن. وهنا راودتني حالة "نوستالجيا" عجيبة عادت بي إلى الموسيقى. رب التي عايشتها أو قرأت عنها والتي تناولت حالة الوجد والسلطنة التي تتنزل على المغني قبل السامع -بالمناسبة- كلمة (السلطنة) تعبير عربي ظهر في القرن الحادي عشر وهي تعود إلى (السلطان)، التي تعني «القوة»؛ تلك القوة التي تعطّل الزمن وتجعل الوقت يذوب ويتلاشى، ويفسح المجال لزمنٍ جديدٍ وطازج لم يتنبه له علماء الفيزياء ولا حتى أستاذهم اينشتاين الذي قال ذات مرة "لو لم أكن فيزيائيا من المحتمل أن أصبح موسيقياً.. غالباً ما أفكر بالموسيقى.. أحلام اليقظة لدي موسيقى وأنظر إلى حياتي بدلالة الموسيقى.. أجمل أوقاتي هي تلك التي أقضيها بالعزف على الكمان – تماماً- كحالة أبو نورة الذي استغرق في فضاء مغمور بالانفعال والأحاسيس في حالة من الغياب الحضوري بفعل التجلي ونشوة الطرب، وذلك التفاعل الذي تغلغل عميقاً في المستمعين ليصبح امتداداً «للغناء»، ويوّحد بينه وبين جمهوره بشكل إيقاعي كاشفاً عن الجانب الآخر للزمن وحدوده اللامتناهية، ثم نكتفي نحن -في تسليم خالص- ونهتف: «الله .. اللّه». شكراً لهيئة الترفيه وشكراً لمعالي المستشار تركي آل الشيخ على هذا الوحي الفني والمزيج الإبداعي في إخراج الحفل، ودعمه المستمر لرواد الفن والمبدعين وجهودهم التي وضعت المملكة على خارطة الفن العالمي وعززت حضوره في كل أصقاع المعمورة.