قبل عدة أسابيع كتبت مقالاً بعنوان "الخلود الإلكتروني" عرضت فيه قراءة تخيلية عن بعض حدود الواقع التي سيكسرها الذكاء الاصطناعي، ومن ذلك إمكانية خلود البشر في العالم الافتراضي حتى بعد موتهم. تحدثت في المقال عن الإمكانات الهائلة التي أظهرها الذكاء الاصطناعي، رغم أنه لا يزال في مرحلة التخلق ولم يصل للنضج بعد، وأن المعطيات الحالية تشير إلى إمكانية أن يستطيع هذا الذكاء دراسة شخصية الأفراد، طريقة حديثهم وأسلوب تفكيرهم وتحليلهم للأحداث، وحل المشكلات وحتى استجابتهم للمؤثرات وإظهارهم للمشاعر، ومن ثم تكوين شخصية مستنسخة من الشخص تبقى وتتفاعل مع محيطها عبر وفاته بذات الصوت والشكل أيضاً. الأسبوع الماضي نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً مثيراً للاهتمام بعنوان "استخدام الذكاء الاصطناعي للحديث مع الأموات" تناولت فيه تطبيقاً جديداً يحاكي فكرة الخلود الإلكتروني التي ناقشتها في بداية المقال. حيث قامت شركة HereAfter AI بطرح تطبيق يقوم بعمل حوار موسع مع المستخدم، وبناء عليه يستطيع فهم طريقة تفكيره وتحليلها، وحفظ ذكرياته وقصصه الخاصة وتفاصيل حياته؛ حيث من الممكن مستقبلاً تكوين نسخة إلكترونية من المستخدم تستطيع التحدث والتفاعل مع أصدقائه وأقاربه بعد موته بشكل أقرب ما يكون لشخصية المتوفى. الحوار ليس على شكل محادثة مكتوبة فقط، بل بالصوت الذي تم توليده عبر الذكاء الاصطناعي والذي يطابق صوت المستخدم. تقرير نيويورك تايمز أورد قصة عن سيدة تتحدث عبر الهاتف مع والدها المتوفى وتطلب منه نصائح للتحديات التي تواجهها وتتلقى إجابات بصوت والدها وبأسلوبه في التفكير، حيث أجرى والدها قبل وفاته ساعات من الحوارات المتكررة مع الذكاء الاصطناعي في هذا التطبيق وبناء عليه أصبح يستطيع التنبؤ بردود الأب عبر حواراته السابقة معه. هذا التطبيق سبقه أيضاً تطبيق آخر من شركة StoryFile والذي، إضافة للصوت ودراسة الشخصية، يستنسخ شكل المستخدم ويعيد تجسيده بكل التفاصيل الدقيقة ابتداء من حركات اليدين والإيماءات وحتى رمشات العين. الممثل الأمريكي إد أسنر قام بتسجيل مقابلات مطولة مع هذا البرنامج قبل عدة أسابيع من وفاته، وبعد موته أرسلت الشركة الملف لابنه الذي صعق وهو يشاهد نسخة والده المتوفى يخوض معه حوارا مفصلا يتطابق بشكل لا يصدق مع شخصية والده ناهيك عن التطابق التام أيضا في الشكل والصوت وحركات الجسد. بطبيعة الحال هذه التقنية طالتها الكثير من الانتقادات الأخلاقية والقيمية، لكنها جزء من طوفان سيغمرنا قريباً وقد تكون ممارسة بدهية يقوم بها أغلب الناس في المستقبل تماماً مثل منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت جزءاً أساسياً من حياتنا الآن.