ثمة حالة تثير التأمل؛ وهي أن هناك تمدداً روائياً لافتاً، وهو تمدد؛ ليس بالضرورة صحياً. فهناك استسهال للسرد والرواية تحديداً. ولقد فطن الناقد العربي الكبير د. عبد الله إبراهيم لهذا التمدد ووصفهم ب»غشماء السرد»، أيضاً لوحظ هناك تسامحاً مريباً من قبل بعض النقاد والكتاب في مجاملة أعمال ضعيفة والتعليق عليها، ترى ما الأسباب التي تقف خلف هذا الاندفاع المحموم صوب الرواية؟ وكيف يمكن قراءة هذا التعضيد من قبل بعض المثقفين والنقاد لأسماء ما زالت تتعثّر خطواتها الأولى في هذا الفن السردي الذي يبدو أنه أغرى الكثير من غشماء السرد بوصف عبدالله إبراهيم؟ حول هذه الأسئلة التقينا بعدد من المثقفين الذين لهم حضور ثقافي ونقدي مهم فكانت حصيلته كالتالي: سألنا ضيوفنا: كيف تعلقون على هذا الاستسهال الكتابي للرواية؟ ولماذا اندفع نقادنا ورفعوا من محاولات روائية ضعيفة؟ الصداقات سبب التساهل في البداية تعتبر د. شيمة محمد الشمري (أديبة وناقدة) أن التمدد والترهل الذي طال بعض الأعمال الروائية؛ ونعني به زيادة في طول الرواية أو السرد بلا فائدة جوهرية واستخدام كمية كبيرة من التفاصيل والتكرار وإدخال شخصيات ثانوية وأحداث غير ضرورية، إضافة إلى استخدام لغة سهلة وتبسيط الأحداث والشخصيات بشكل مبالغ فيه، وترى الشمري أن هذا النهج تسبب في التقليل من عمق وتعقيد العمل الروائي، وهو ما يمكن أن ينجم عن الاستسهال من أعمال ضعيفة فنياً، ويؤثر سلبًا على جودة العمل الروائي، ويجعل القارئ الفطن يفقد اهتمامه بالرواية. وترى الشمري أنه من الضروري السعي إلى تحقيق توازن مناسب بين التفاصيل والأحداث وتناميها، وتطور الشخصيات؛ لتقديم عمل روائي قوي ومثير للاهتمام. وتضيف: التساهل الذي نجده في النقد كما لاحظناه في الإبداع، قد يخضع للعلاقات الاجتماعية والمهنية والمصالح الشخصية مثل الصداقات أو العضويات في نفس الجمعيات الأدبية أو المشاركة في الأحداث الأدبية نفسها، ولبناء علاقات جيدة مع الكتّاب أو الناشرين لأغراض ترويجية أو تجارية. وزادت قائلة: أيضاً الرغبة في تجنب الصراعات والانتقادات الشخصية التي قد تحصل نتيجة النقد. ولا ننسى الاختلاف في التذوق بين النقاد والكتّاب فقد يعجب بعض النقاد والكتّاب بأعمال تعتبر ضعيفة من وجهة نظر آخرين. مع أن هذه الأسباب ليست قاعدة عامة، وأن هناك العديد من النقاد والكتّاب الذين يلتزمون بالصراحة والنزاهة في تقييم الأعمال الأدبية. من الضروري أن يتم تقييم الأعمال بناءً على قوتها الفنية وجودتها بصراحة وعدالة لضمان التطور والتقدم في المجال الأدبي. وهناك وجهات نظر متعددة بشأن كثرة النشر والتأليف مع قلة الجودة. يمكن تلخيص بعض هذه الوجهات النظر منها: الحرية الإبداعية والتعبير: يعتبر بعض الأشخاص أن زيادة عدد الكتب والتأليف يعكس حرية الإبداع والتعبير، وتوفير الفرص للمؤلفين الجدد، حيث يعتبر البعض أن زيادة عدد الكتب والتأليف يوفر فرصًا أكبر للمؤلفين الجدد. ويمكن لهذا التنوع أن يسمح لأصوات جديدة بالظهور وتوسيع الآفاق الأدبية. وتبقى الجودة في الأعمال الروائية قضية فنية معقدة تخضع لتفضيلات القراء والمعايير الأدبية المختلفة، قد يختلف الرأي بشأن ما هو جيد وما هو ضعيف في الأدب حتى بين النقاد الذين يحاولون دائماً مراعاة الجودة والتميز في العمل الروائي، وتقديم آراء وتقييمات مستنيرة ومبنية على أسس فنية، وعلى القراء أن يستخدموا تلك التقييمات لاتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن الروايات التي يختارون قراءتها، وأنا على يقين بأن الزمن كفيل بتمحيص الإبداع وفرز وتخليد جيده. أسباب التمدد الروائي ويشارك محمد الحرز شاعر وناقد برأيه ويقول ثمة فرق في نظري بين ظاهرة تمدد الكتابة الروائية في مشهدنا الثقافي السعودي وبين تلقي هذه الظاهرة عند الكثير من النقاد المتخصصين وغير المتخصصين. ويشير أنه عند تأمل هذه الظاهرة بمعزل عن سياق التلقي لها، وبمعزل أيضاً عن القيمة الفنية التي يمكن أن يضيفها مثل هذا التمدد على المشهد الروائي من عدمه، ينبغي أن يطرح مسبقاً عن الأسباب التي أدت إلى مثل هذا التمدد قبل الإجابة عن الانعكاسات التي صاحبتها وأدت إلى ما أدت إليه من استسهال في الكتابة الروائية من جانب ومحاباة ومجاملة في تلقي هذه الكتابة من جانب آخر، من طرف بعض النقاد كما يشير سؤالكم. ودائماً بالنسبة لي رؤية المملكة 2023 محورية ومفصلية في تحليل الظواهر الثقافية التي تتسارع إيقاعها بشكل ملحوظ ، خصوصاً ما يرتبط منها بالجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية والأدبية، وحين نسلط الضوء على جانب الكتابة الروائية تحديداً نرى أن الكتابة الروائية ما قبل الرؤية كانت في بعض جوانبها المضمونية تنطلق من تصوراتها عن الذات باعتبارها ذاتاً تحاول التمرد على السائد، أو ذاتاً تحاول التعبير عن نفسها على درجة من الحياء والخجل. وبرزت أعمال ضمن هذا الإطار خلاصة ما تكتبه لا يتجاوز البوح عن ذوات مأزومة لا تعالجها الرواية بقدر ما تعالجها العيادات النفسية. ربما هذا الكلام لا ينسحب على مجمل الأعمال التي بدأت تتراكم نوعياً بشكل لافت للأنظار منذ الألفية الثالثة. لكن ما يجعلني أربطها برؤية المملكة 2030 هو ما جرى لاحقاً بسبب الظروف التي هيأتها الرؤية من انفتاح على العالم وعلى الحياة المعاصرة بمنهجية وتصور كان المبدع السعودي في جميع الحقول والمجالات هو المفتاح السحري لهذه المنهجية. من هذه النقطة تحديداً يمكن النظر إلى أن استسهال الكتابة الروائية ومن ثم تأويلها باعتبارها محاولة لتصريف مثل هذا الانفتاح من خلال الكتابة الروائية. ولأضرب مثالاً على ذلك: الأثر السينمائي على السرد الروائي لم يكن حاضراً بقوة قبل رؤية 2030 لكن بعدها لو اطلعت على أقل القليل، وخصوصاً من الأصوات الروائية النسائية، ولأقل الشابة اللاتي أعمارهن لا يتجاوزن العشرين، والتي صادف أن اطلعت على بعض أعمالهم في أغلبها لم تنشر بعد، فإنك ستصادف مخيلة سينمائية مؤثرة بشكل واضح على طريقة السرد والشخصيات والفكرة بشكل عام. هذا ينبغي دراسته قبل أن نصدر أحكاماً تختزل في عملية الاستسهال أو عملية التلقي باعتبارها مجاملة أو محاباة. المجاملات تبسط الكتابة للمبتدئ من جهته يرى د. أحمد بن عيسى الهلالي -جامعة الطائف- أن استسهال الكتابة بات شائعاً في كثير من الفنون الأدبية، وله دوافع مختلفة، منها شعور الكاتب بوفرة الأفكار في مخيلته، وإغراء الضياءات حول بعض الكتاب، كما أن للمجاملات من الأصدقاء، ومن بعض النقدة لمآرب خاصة تبسّط موضوع الكتابة في تقدير كتاب مبتدئين، فتجعلهم يقفزون على المراحل، ويشعرون بالنضج، فينتقلون من الحصرم إلى الزبيب دون أن يمروا بمرحلة العنب، كما قال أبو علي الفارسي حين مر بابن جني وهو يدرّس: «زببت وأنت حصرم» وهذه في حقيقتها محرقة لكثير من الكتاب وضياع لجهدهم وأموالهم، وعثرة في بداية الطريق، تجعل بعضهم يشعر بالحنق على القراء، وسرعان ما ينطوي على نفسه ويتوقف عن الكتابة، أو يستمر في إنتاج أعمال ضعيفة لا تضيف قيمة إلى المنتج الإبداعي. ويضيف الهلالي أما في مجال كتابة الرواية، فالفن الروائي فخ لكثير من الكتاب المبتدئين؛ فهو سهل من باب تخيل الأحداث، وحكي قصة ما؛ لأنهم لم يدخلوا معترك الفعل الكتابي الحقيقي، وكانت قراءاتهم سطحية، فلم يدركوا أن صعوبته تكمن في نسج الأحداث في عمل روائي محكم، في لغته وأحداثه وأزمنته وحبكته وصناعة شخصياته، وأنه عمل يتكون من طبقات مختلفة، على مستوياته السطحي والمتوسط والعميق، وما بين تلك الطبقات من مستويات يعرفها الراسخون في كتابة الرواية، وأنه عمل فني عميق له أمام وله ما وراء، فالرواية تمتاز بأنها مخزن هائل للأفكار، والرسائل، والصور، وتحتاج إلى أدوات فنية ومعرفية وثقافية كثيرة، لا مناص من أن يتمثلها الكاتب، ويمتلكها. ونتيجة جهل بعض الكتاب بكثير مما سبق؛ استسهلوا كتابة الرواية، فنتج عن ذلك نشر أعمال تكشف عن جهل الكاتب بكثير من أسرار العمل الروائي، فيخرج العمل تقليدياً سطحياً، لا يتجاوز حكي قصة عادية ما، وبعضها ضعيفة في بنائها اللغوي، وبعضها تعاني اختلالات في حبكة السرد وفنياته، وبعضها استنساخ من أعمال درامية لا تختلف عنها إلا في أشياء بسيطة، وقس على ذلك. أما دور النقاد، فالشكوى من غياب النقد باتت أشهر من الحديث عنها في شتى المجالات، ونحن لا نعاني من قلة في النقاد، لكن نعاني من انشغالهم بمشروعات نقدية لا تستوعب كل النتاج الهائل من الأعمال الإبداعية، فمعظم النقاد أكاديميون مهمومون برؤى أكاديمية تحتاج إلى زمن طويل لإخراجها، قد تتأخر عن مجاراة الحركة الإبداعية، والنقاد غير الأكاديميين بعضهم مهموم بالقراءات العالمية، أو مشغول بمتابعة مشاهير الكتاب العرب، ويظل عدد قليل من النقاد يتابعون الحركة الإبداعية، تختلف رؤاهم، فبعضهم يعتمد مبدأ التشجيع إيماناً بأن الجيد سيفرض نفسه، وبعضهم ربما يحطم الزجاج بطرحه الحاد، ولسنا بحاجة الأول ولا الثاني، بقدر ما نحتاج إلى نقاد يوجهون الكُتاب إلى امتلاك أدوات الكتابة قبل العبور إلى الفعل الكتابي والنشر، ومؤسسات ثقافية تقدم الورش والدورات التثقيفية، وتمنح الجوائز والدعم، ودور نشر لا يغريها الكسب المادي بقدر ما يغريها تجويد المنتج وصيانة الصنعة. محمد الحرز د. أحمد الهلالي