أزعم أن لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة والذي رواه البخاري ونصه: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حُمّاها فاجعلها بالجحفة) قد نال دعاؤه أيضاً العلم والعلماء فيها، ومصداقاً لذلك أنك تجد الحركة العلمية والثقافي ظاهرة كلما قلّبت أي كتاب يتناول تاريخ هذه المدينة المتشحة بالعلم والأدب عبر مراحل تاريخها الشامخ، بل إن الحركة العلمية لديها دؤوبة ولها سمات وفضائل اكتسبتها من حلقات المسجد النبوي الشريف التي كانت وما زالت حلماً لكل عالم، وهي بهذه الحلقات تمثل أقدم الجامعات في العالم الإسلامي. أسوق هذه المقدمة بعد أن قرأت كتاباً حديثاً أصدره نادي المدينةالمنورة الأدبي مشكوراً للأديب المدني الشيخ محمد سعيد دفتردار -رحمه الله- (1322 - 1392) حمل عنوان (أعلام المدينةالمنورة)، وقد وقام بجمعه وتحقيقه وتقديم دراسة مستفيضة عنه الباحث الثبت الأديب والناقد الدكتور محمد إبراهيم الدبيسي، الذي له قِدَم صِدق في المنجز العلمي المديني، كما عُرف عنه اهتمامه الكبير وحرصه الشديد بتاريخ مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام في شتى مناحي المعرفة، وقد لمس منه القارئ عنايته بأعلام المدينة وآثارها وآدابها وأخرج للمكتبة العربية جمهرة من المصنفات التي دعمت كل باحث وأعانت كل دارس، وذلك لكونه ممن عشق تراث هذه الأرض الطاهرة وأُولع بدراستها وتتبع ما كُتب عنها في المدونات التاريخية والشعرية والأدبية والرِحْلية بكل محبة وإجلال. أما صنيعه البديع في هذا السفر، الذي انبثق من عشقه للمدينة النبوية ثم تقديره للمؤلف الأديب دفتردار، فكان له أن تقصي ما خطه من مقالات عتيقة أودعها صحيفة المدينة في نهاية السبعينات الهجرية وتحديداً في (21 / 11 / 1378)، ثم خص مجلة المنهل باقي هذه المقالات في عام (1379) وتوقف عن نشرها، ثم ارتأى أن يكمل كتابته عن أعلام المدينة ورموزها مطلع التسعينات الهجرية، ويعلم من غمس قلمه في فن التحقيق ما يلاقيه من صعوبات كبيرة وعقبات كؤود، فالبحث عنها في بطون هذه الصحف التي تعرضت بعض كلماتها للتلف الذي من الممكن أن يغير سياق الجملة، فيفسد المعنى الشريف. في مطلع الكتاب أحاط المحقق الدبيسي القارئ بكل ما يعرفه عن المؤلف دفتردار الذي أبصر النور في طيبة الطيبة ونشأ يتيم الأب فكفله جده الشيخ يحيى دفتردار الذي كان كبير أئمة المسجد النبوي الشريف في ذلك العهد، ما جعل الحفيد محمد سعيد ملازماً لجده في غداته للمسجد أو رواحه، وبذلك يكون الفتى قد ألِفَ حلقات العلم وارتوى من زلال علمائه وعاش في أجواء مشبعة بالإصلاح والتقوى، إلى جانب اِعتداد الفتى محمد سعيد بجده لأمه الشاعر المدني الشيخ إبراهيم الأسكوبي (1265 - 1332) أحد أبرز زعماء وشعراء المدينةالمنورة في العهد العثماني. وما إن جاوز الصبي محمد سعيد سنّ التمييز حتى ألحقه جده يحيى بكتّاب السنبلية شأنه شأن لداته من الصبيان، حيث أظهر القرآن الكريم مجوداً مع ما تيسر له من مبادئ القراءة والكتابة وشيئاً من علوم ومعارف تلك المرحلة. وقد برز نبوغه حين أمّ المصلين في صلاة التراويح بالمسجد النبوي الشريف وهو لم يبلغ الحلم ثم درس علوم الشرع المطهر من تفسير وحديث وفقه والسيرة النبوية. اضطر الجد يحيى أن يحمل حفيده معه وبقية أسرته نحو بلاد الشام أثناء حركة التهجير التي عاشها المدنيون إبان الحرب العالمية الأولى والتي عرفت ب(السفر برلك)، فأقامت أسرته بين دمشقوبيروت سنوات من الغربة يراوده حلم العودة لسماع أصوات مآذن الحرم النبوي الشريف، حتى آبت أسرته صوب المدينة مع بقية الأسر التي شملها التهجير القسري، وفي سنوات التهجير وقبل مقدم أسرته لطيبة درس الفتى محمد سعيد بمدرسة الصنائع العثمانية، ثم ارتحلت أسرته نحو بيروت ودرس في بعض مدارسها، ولا جرم أن هذا التنقل والترحال قد أصابهم بالنَصَب والمكابدة، لكن فتانا ارتأى أن يكمل دراسته من خلال مؤسسة علمية عريقة ما جعله يلتحق بالأزهر وكان في تلك الحقبة قبلة لطلاب العلم ومحجاً لمن رام أن يكون من ورثة الأنبياء، فشد رحاله إلى أرض الكنانة وانتظم في أزهرها طالباً عام (1348) وأتم تعليمه الثانوي والجامعي من كلية اللغة العربية كما نال أيضاً شهادة أخرى من كلية الشريعة وحصل كذلك على إجازة في التدريس، وكان في مسائه يعمل في إحدى المطابع المصرية مصححاً لغوياً ومرد ذلك عشقه للعلم وفضيلة طلبه وشرف الانتماء إلى دوحته. عاد الشاب محمد سعيد دفتردار إلى وطنه بعد أن سلخ من عمره عشرة أعوام ورأى أن أمامه جهاد طويل في نشر رسالة العلم بين أبناء طيبة، عاقداً في نيته أن يضع لبنات جديدة في حقل التعليم؛ وكان له ما أراد، فأنشأ أول مدرسة ثانوية بالمدينة (ثانوية طيبة) وعيّن مديراً لها ومدرساً فيها إلى جانب عمله معتمداً للمعارف، ثم شرع يفتتح المدارس في أحياء المدينة وقراها وحين رأى شح المتقدمين للوظائف التعليمية وضآلة أعدادهم افتتح المعهد العلمي السعودي الذي يعد ثاني معهد في المملكة العربية السعودية، متولياً إدارته عامين كاملين، كما شرع بتأليف بعض مناهجه للطلاب، وأتبع هذا المعهد بمعهد ليلي آخر حتى يحقق فرصاً أكبر لمن وجد في نفسه توقاً إلى العلم من شباب طيبة. ومع الدور البارز الذي لعبه الدفتردار في تأسيس المدارس وافتتاح المعاهد، إلا أنه لم يغفل عن إظهار ولعه بالأدب والثقافة، فشارك مع كوكبة من أدباء المدينةالمنورة في تأسيس منتدى (أسرة الوادي المبارك) التي أخذت على عاتقها دعم النشاط الأدبي وإبراز ثقافة أبناء طيبة، مثل: اقتناء الإصدارات الأدبية، وإقامة المناقشات حولها وإبراز إنتاج الأعضاء من الشعر والقصة والمقالة، وربما غفل القارئ أن مناشط هذا المنتدى كانت تعقد في بيته، وقد مارس الدفتردار التأليف فله غير مؤلف أذكر منها: (تاريخ الأدب العربي) وهو أول أديب سعودي يكتب في هذا التخصص وقد قرر أن يكون في مناهج المرحلة الثانوية والمعاهد العلمية، كذلك كتابه (مجمل السيرة النبوية)، وكتابه (ذخائر المدينةالمنورة)، إلى جانب جمهرة من قصائده الشعرية وقصصه القصيرة التي سبق نشرها في صحيفة المدينة ومجلة المنهل. الدفتردار وهذا الكتاب: يقف المؤلف في رسمه للشخصية المتَرْجَم لها فيصفها وصفاً دقيقاً، إذ يسرد اسمه كاملاً وأصول أسرته وسنة هجرتهم إلى المدينةالمنورة، وتاريخ ميلاده كما يصف ملامح المترجم له الخَلْقية والخُلُقية ومراحل تعليمه ونشاطه العلمي أو الأدبي وطرفاً من شعره كما يسرد رحلاته في طلب العلم ومؤلفاته إن وجدت والمناصب التي تقلدها وذكر ما يعرفه عن ذريته وما يتصل به من أقارب وأرحام، وربما تناول العَلَم المُتَرجَم له نفراً من أولاده وأقاربهم ممن تكتمل فيهم شروط العلم فيذكر هذه السلسلة التي تنتمي لجد واحد، مثلما كتب عن آل أسعد وآل البرزنجي وآل جمل الليل وآل الخاشقجي وآل الأنصاري وآل الداغستاني وآل البري، وهو لا يخص قبيلاً دون قبيل، كما أسهب في ترجمة جده لأمه الشاعر إبراهيم الأسكوبي، وكذلك ترجمته للشاعر والطبيب عبدالحق رفاقت علي العثماني، والكتاب يُبَصِر القارئ على ما كانت عليه مدينة المصطفى من حيث أحوالها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونظام الإمامة بالمسجد النبوي الشريف وطريقة الفتيا والإفتاء وحركة التعليم والثقافة، ويُلِم هذا الكتاب على غرائب وطرائف ومواقف متعددة تضيف للقارئ معلومات مهمة قد لا يجدها في كتب أخرى، ومثال ذلك: أن الأديب والصحفي الطيب بن الطاهر الساسي (1306 - 1378) قد رأس تحرير صحيفة (القبلة) إبان عهد الشريف حسين بن علي ثم رأسها في عهد الملك عبدالعزيز بعد أن اتخذت من (أم القرى) اسماً لها، وهذا جَدَّهُ الشيخ يحيى دفتردار الذي عرف بمكانته العلمية والتجارية، فحين جاءه الطبيب وقد شاخ وطعن في السن وسأله عما يشكو منه أجابه بقصيدة منها هذه الأبيات: جاء الطبيب يداويني فقلت له هل للمنية طب أيها الآسي؟ الموت دب بأوصالي فقطّعها لم يبقَ إلا لساني ضمن إحساسي الناس مذ خلقوا والموت غايتهم فلا تغالطني إني من الناسِ آباؤنا خلفونا بعد ما رحلوا ونحن إثر سراهم غير جلاسي تضلعوا من كؤوس الموت فاخترموا وإنني شارب من ذلك الكاسِ. أما الصحفي الشيخ محمود شويل (1302 - 1372) فهو أقدم صحفي في المدينةالمنورة وربما في السعودية، إذ كان كاتباً ووكيلاً لعدة صحف مصرية ولبنانية: كالمقطم والمؤيد والفتح والبلاغ، كذلك كان رجل الأعمال عبدالله بن محمد مدني (1280 - 1339) أول من أسس فندقاً كبيراً في طيبة وكان على غرار فنادق القاهرة والأستانة، أما فضيلة الشيخ محمد العائش بن محمود القرشي (1286 - 1364) فقد أضافوا أهله عقب اسمه محمد ب(العائش) لأن والدته أنجبت أربعة عشر طفلاً لم يعش منهم غير المُتَرجم له. لقد كان في ظن المؤلف الدفتردار أن يخرج هذه الأعلام في سفر خاص لتعم فائدته بين القراء لكن هذه الأمنية لم تتحقق في حياته فرحل دون أن تكتحل عيناه به، وحال الأجل دون الأمل، كذلك وَدّ كثير من أهل الأدب أن يخرجوه (أي هذا الكتاب) إلى المكتبة العربية إلا أن محاولاتهم حال بينها وبين الكتاب ظروف صرفت عن نشره، ومن هؤلاء: صاحب المنهل الشيخ عبدالقدوس الأنصاري، والناقد عبدالعزيز الربيع، والأديب والمؤرخ محمد العيد الخطراوي، وآخرين من أصدقائه الأدباء، ناهيك عن أبنائه الذين كانوا يملكون هذه الرغبة أيضاً، فظلت هذه الأعلام حبيسة في بطون صفحات جريدة المدينة ومجلة المنهل ردحاً من الزمن نافت عن الخمسين سنة، لكن أديب المدينة وباحثها الدكتور الدبيسي حاز هذا السبق العلمي والشرف الرفيع، فتجشم عناء جمعها، وما أصعبه من عناء، وشمر عن ساعديه ليُسْدي لنا معاشر القراء هذا السفر الباذخ، وهذا ديدنه الذي عرف به حين يتجلى في إخراج مصنفاته للمكتبة العربية وقليل جداً من جيله من تهيأت له الذرائع إلى إتقان فنه هذا الإتقان، وأحمد الله أن الكتاب صار يُرى ويُقرأ ويُتداول بعد أن كان من قبل يُسمع عنه ولا يُرى. محمد الدبيسي محمد باوزير