«كاتب لا يستيقظ من الكتب» هو عنوان آخر إصدارات الكاتب والمترجم والباحث المغربي محمد إيت لعميم، والذي يأتي امتداداً لجهده الإبداعي المختلف الذي يجعل من التثاقف والتواصل مع ثقافة الآخر أحد أهم المشاريع التي يسعى لإنجازها. حول هذا الكتاب ومشروعه الترجمي التقيناه على هامش «مهرجان أصيلة»؛ حيث فضاءات الثقافة وعبق الكتب ورائحة الأحبار، والتقاء المثقفين هو بعض مباهج المعرفة وثمرات التواصل. يقول المترجم محمد إيت لعميم بأن هذا الكتاب هو ثمرة أكثر من عشرين سنة من الترجمة لحوارات شاملة مع كتاب ومفكرين وفلاسفة، وروائيين، ونقاد كُنتُ أستكشف فيهم نظرات عميقة حول الكتابة والوجود، حول الأدب الحياة. وحول أهم ما يميز أغلب الحوارات التي يشتمل عليها الكتاب، يقول المترجم بأنها تتمتع بالشمولية وتغطية المشاريع الكتابية لكل مؤلف على حدة، مما يجعلها توفر للقارئ نظرة شاملة على التحولات التي عرفها كل كاتب، وتكشف أسرار هذه التحولات إضافة إلى أنها حوارات ذات طابع سيري، بحيث نصادف فيها معطيات حول الكاتب، تعمل على إضاءة بعض مشاغل الكتابة لديه، وتفسر القطائع التي صاحبت هؤلاء الكتاب عبر مسارات الكتابة ومنعرجاتها، إلى درجة أن كل حوار على حدة قد يتحول إلى مشروع كتاب حول تجربة المؤلف. وعن علاقة العمل المترجم وعلاقته بالكتابة وكيفية اختياره لموضوعات الحوارات يوضح المترجم لعميم قائلاً: «ولو أنني كنت أترجم هذه الحوارات بطريقة متقطعة، فإنني سألمح فيها خيطاً ناظماً، وهو مديح القراءة والاعتناء بالكتاب، مما حدا بي أن أطلق هذا العنوان الذي بدا لي جامعاً لأشتات هذه الحوارات»، ويضيف: «لا يخلو حوار من الإشادة بفعل القراءة وبأهمية الكتب في حياة الكتاب؛ كما أنها تعكس هذه الحوارات مراحل من اهتماماتي المتعلقة بالنقد والنظرية النقدية، وتحولاتي التي انعكست في الاهتمام بتاريخ الأفكار وبالتأويل والقراءة المنفتحة للنصوص من خلال مقاربات متنوعة، بحيث أصبحت أميل إلى أن الكتابة النقدية هي أدب، وليس قولاً على قول أو كتابة من الدرجة الثانية. هذه التحولات كانت تقودني إلى انتقاء حوارات تجيب عن أسئلتي الخاصة من ثم فإن هذه الحوارات قد تضيء جوانب متعلقة بهذه التحولات التي عرفتها عبر مسار الكتابة والترجمة، لأنني أؤمن أن ما نترجمه هو بالأساس أفكارنا كتبت في لغات أخرى، ونسعى من خلال ترجمتها إلى استردادها. وحول اختيار هؤلاء الكُتّاب تحديداً والمعيار الذي انطلق منه يقول لعميم: لدي ميل، وشغف بالحوارات مع الكتاب الكبار، لأن الحوار جنس أدبي حي، ينبض بالأفكار الطازجة، ويسمح للكاتب أن يتحدث عن تجربته وكتبه بنوع من الحيوية المضيئة، إذ الأفكار التي يسترسل في التصريح بها تتمتع بذكاء اللحظة وبالعثور على الجمل المناسبة، أحيانا يتمكن الكاتب من اكتشاف صيغ وعبارات موجزة تصبح جُملاً خالدة لا تنسى، إضافة إلى أن الحوار يتمتع بالقدرة على التكثيف والإيجاز وتقديم مفاتيح لفتح مستغلقات الكتابة، وفهم مقصديات الكاتب من أعماله. وحول النتائج المتوخّاة من ترجمة هكذا حوارات يكشف المترجم محمد إيت إلى أنه سعى إلى أن تكون الحوارات المترجمة حوارات تغطي التجربة برمتها، تفتح شهية القارئ للعودة إلى أعمال كل كاتب؛ ويضيف: «إن وظيفة هذه الحوارات هي وظيفة الاشتهاء، فكأنها مقبلات لمأدبة فاخرة منتظرة». كما يعتبر لعميم أن الحوار لحظة اختبار القدرة الكاتب على استيعاب مشروعه ومدى صفاء ذهنه في تَمثُّل العمل الذي يشتغل فيه سواء أكان نقداً أو رواية أو فلسفة أو تاريخ الأفكار. إنها بالفعل، بداية للمجتهد ونهاية للمقتصد، فهي تلبي حاجات كل صنف، فالذي يتمتع بقدرة هائلة على القراءة ستفتح له الحوارات نهماً قرائياً لأعمال هؤلاء الكتاب أو إعادة قراءتها على ضوء الأفكار التي كشفتها لحظات الحوار، ومن لديه نزوع انتقائي في القراءة فإن الأفكار التي وردت مبثوثة في ثنايا الحوارات قد تلبي بعضاً من فضوله المعرفي. اشتمل الكتاب على خمسة عشر حواراً طويلاً، لكل من الروائي والكاتب المكسيكي الشهير كارلوس فوينتيس، الأول بعنوان «السعادة والتاريخ لا يمكن أن يلتقيا»، والثاني بعنوان «في مديح الثقافة الهجينة». وللناقد والكاتب الفرنسي الذي كان لديه تأثير بليغ على تاريخ النظرية النقدية في الأزمنة الحديثة رولان بارت، الذي عرف تنقلات وتحولات في مشروعه الكتابي تحت عنوان «الأدب والتدريس»، حيث يصرح فيه أنه لا ينبغي أن ندرس إلا الأدب» لأن الأدب ما تيزيس Mathesis أي علم ومعرفة. وتزفيتان تودوروف، الذي هو بدوره عرف معابر عديدة في مشروعه النقدي من الشعرية التي أرسى دعائمها رفقة جيرار جنيت إلى تاريخ الأفكار، والبحث عن المعنى، تحت عنوان «الدين والحب والجمال طرائق لإعادة التجربة مع المطلق»، والناقدة والروائية البلغارية جوليا كريستيفا التي كان لها دور كبير في تطورات النظرية الأدبية بصحبة رولان بارت وتودوروف، وجماعة تيل كيل تحت عنوان «استعجال التمرد». والفيلسوف الفرنسي الشهير صاحب المشروع التأويلي الواضح المعالم بول ريكور، تحت عنوان «كل كتاب أكتبه يترك شيئا عالقا» حوار يبرز فيه ريكور موضوعات مشروعه وكيف تشكلت وكيف أن كل كتاب في مشروعه يجيب عن أسئلة تبقى عالقة. والروائي الإيطالي أنطونيو طابوكي، تحت عنوان «صرت كاتباً بالصدفة» يتحدث فيه عن مساره وكيف اهتدى للكتابة، وكيف أصبح يكتب في لغتين الإيطالية والبرتغالية، حيث تعلم البرتغالية ليقرأ بها كاتبه المفضل الشاعر البرتغالي المتعدد الأوجه فيرناندو بيسوا، يشير في حواره إلى قولة مقتبسة مفادها أن «الكاتب الجيد يسرق والكاتب الرديء يقلد».أما الناقد الإيطالي المرموق في اللحظة الراهنة بييترو تشيتاتي فإنه يقول «كتبي شكل من أشكال السرقة»، وهو عنوان حوار طويل معه حول كتبه التي تناولت حيوات كتاب كبار بشكل مغاير لكتابة السير الغيرية، بحيث يسعى في كتبه السير إلى اكتشاف الحياة المخفية للكتاب والتي لم يهتدوا إليها. أي حياتهم المخفية التي لم يتمكنوا من صياغتها من خلال أعمالهم وسيرهم. الناقد المغربي المرموق عبد الفتاح كيليطو، الذي ينفر من إطلاق نعت الكاتب حول تجربته، ويكتفي بالنعت الذي استحدثه رولان بارت في التمييز بين ecrivain و erivant، فهو يجد نفسه في هذا النعت الأخير، في حواره يبسط القول حول القضايا الأثيرة لديه في القراءة ومواطن اهتمامه بالتراث السردي العربي القديم وتقديم قراءة مغايرة للمألوف، حوار اتخذت له عنواناً من تصريح له داخل الحوار «كنت بورخيسياً قبل أن أقرأ بورخيس». أما الروائي الإسباني خابيير سركاس، سليل الروائيين الكبار بدءاً من سرفانتيس، وبورخيس وباركاس يوسا، وكونديرا، فإنه يتحدث عن الرواية بصفة عامة وعن تجاربه الخاصة مميزاً بين نمطين من الكتابة الروائية نمط دشنه سرفانتس يتميز بالحرية ومزج الأجناس ونمط يتميز بالصرامة التي دشنها فلوبير، «النموذج المثالي للرواية كما أنجزها عملياً في كتبي تعالج التركيب بين التاريخين: تقترض من الأجناس دون الإحساس بالمضايقة، لكن بصرامة لولاها لا يمكننا أن نكتب بعد فلوبير الذي غير كل شيء»، لقد بسط أفكاراً عميقة حول جنس الرواية في حوار تحت عنوان «الرواية سلاح دمار شامل. أما البيبليوفيلي عاشق الكتب جون كلود كاريير، فإنه تناول في حواره ما مصير البيبليوفيليا في زمن الرقمنة؟» قضايا من الراهن، قضية الكتاب في زمن الوسائط والثورة الرقمية، إنه موضوع الساعة في زمن التحولات والقطائع الكبرى. أما الفيلسوف بيير فيسبيريني، فيبرز في حواره أن صورة الفلسفة اليونانية التي نعرف قد تشكلت في القرن التاسع عشر، فهو باحث متمرد، محطم للأصنام، يرى أن تاريخ الفلسفة كما ندرسها اليوم ليس سوى صياغة متأخرة من هنا أهمية النظرة النقدية، والعودة إلى النصوص الأصلية من دون استثناء. عنوان حواره دال في هذا الاتجاه تشكلت الفلسفة القديمة في القرن 19 أما بيرنار بيفو وبنته فقد اشتهر عبر برنامجه المشهور «آبوستروف» لتقديم الكتب بطريقة فريدة تجعل القراء يصطفون طوابير أمام أبواب المكتبات ليقتنوا الكتب التي يقدم، ما أحوجنا في زمن انحسار القراءة إلى مثل هذا البرنامج العميق، فهو يعتبر فعل القراءة إقداماً وشجاعة، فأن نقرأ هذا عمل شجاع». أما ميشيل باستورو الخبير في تاريخ الألوان وفلسفتها ورمزياتها عبر العصور فإن في جعبته العديد من الكتب النفيسة في هذا المضمار، اخترنا له من كتابه / الحوار «الكتاب الصغير للألوان اللون الأزرق وتاريخيته. وقد أنهينا هذه الحوارات بحوار مع السيميائي والروائي العالمي الكاتب الإيطالي المرموق امبرطو إيكو، عنوانا له دلالته «الكتاب لن يموت أبداً». ويختم لعميم التقديم للكتاب بالتأكيد على أن القارئ سيجد نفسه أمام وفرة من الأفكار المتنوعة والعميقة صدرت عن كتاب ونقاد بصموا تاريخ القراءة، وخلفوا أعمالاً خالدة، ومن عجائب الاتفاق أن أفكاراً عديدة التقى فيها هؤلاء الكتاب لم تكن تظهر لي أثناء الترجمة، بل بدت لي لما انتظمت الحوارات في كتاب، فأصبحت هذه الحوارات تتحاور فيما بينها.