لا تملك حين ترى الأديب الكبير الأستاذ عزيز ضياء بثوبه الأبيض الناصع وعباءته العربية الأنيقة وغليونه الفاخر وحذائه الأسود اللامع تزينه قامته المديدة لا سيما وهو يقتعد الصفوف الأولى في أي محفل ثقافي أو اجتماعي إلا أن تضعه في طبقة النبلاء بلا تردد، وإذا تحدث دارت الأعناق حوله وعمّ صمت عميق كل يريد أن يظفر بسماع حديثه الذي لا يقل أناقة عن هندامه لا سيما إذا تحدث باللغة الإنجليزية التي لا يقارعه أحد من جيله في إتقانها بل كان معدوداً من صدور الكُتاب في بلادنا. في منتصف الثمانينات الميلادية كنت مع طائفة من المثقفين والقراء نتابع باستمتاع وشوق ذكريات الأديب الأستاذ عزيز ضياء (1332 - 1417) الموسومة (حياتي مع الحب والجوع والحرب) والتي كان ينشرها منجمة في مجلة اقرأ إبان رئاسة الدكتور عبدالله مناع لها، فكان لها وقع كبير عند قارئها لما حملته في طياتها من قسوة حياة كاتبها حيث تجرع كأس اليتم طفلاً قبل أن يبلغ عامه الأول فخلّف له اليتم شظف العيش والحياة الخشنة ومستقبلاً تحفه الحرب العالمية الأولى ولا يعلم العالَم كيف ينفك من براثنها؟ وكان لرحيله مع أسرته إلى الشام أثناء ظروف (السفربرلك) القاسية وما لاقاه هناك من تهجير وحرمان وانتشار للأوبئة ورحيل عدد من أفراد عائلته بدءاً بأخيه عبدالغفور الذي أودعه إحدى مقابر حماة وغير بعيد عنه خالته خديجة وجده أحمد في مقابر حلب، وغير ذلك من الصعوبات التي كان يعيشها كل يوم مع أمه. ظل أديبنا أبو الضياء يواصل سرد سيرته بأسلوب شائق وتفاصيل دقيقة ولغة شفيفة مع براعة في السرد تغذيها ذاكرته القوية، وقد وفق فيها لتوفر حُسن الصياغة وجمال المعنى وعمق الشعور، ثم انتقلت سيرته صوب مجلة اليمامة، وبعد أن نشر بعض حلقاتها، يمم شطر صحيفة المدينة وأكمل سيرة حياته حتى نافت على العشرين عاماً من حياته ثم توقف عن سرد سيرته، إنها سيرة تفيض أسى وتكشف كثيراً من الآلام وتظهر ما لاقاه من معاناة، ثم إنها في جوهرها تعد وثيقة تاريخية تبرز أحداثاً مهمة ومواقف لم يكشفها المؤرخون، وأزعم أن ما دفعه لكتابة سيرته غير دافع توثيق حياته، هو خبرته بكتابة السير والتراجم لكونه أخرج عام 1402ه كتابه الأنيق (جسور إلى القمة) الذي أودعه سير كوكبة من أعلام الأدب والفن من عرب وغربيين، وجاءت هذه التراجم على نسق جميل لا سيما في تلك المرحلة التي صدر فيها هذا الكتاب ناهيك أن اسمه كان مدوياً في صحافتنا، وكنت قبل متابعتي لهذه السيرة قد قرأت له أروع كتبه الأدبية ألا وهو كتاب: (حمزة شحاتة.. قمة عرفت ولم تكتشف) الصادر عن دار المكتبة الصغيرة، وهو في حقيقته بحث كان يسعى أن يشارك به في مؤتمر الأدباء السعوديين الذي أبرم في مكةالمكرمة عام 1394ه برعاية من جامعة الملك عبدالعزيز، ومرد تأليفه لهذا الكتاب في ظني، إحساسه العميق بما تعرض له شحاتة من جحود ونكران من رصفائه في حياته وبعد رحيله وهم الذين يعرفون مقدار حضوره الثقافي بينهم ومدى ما يتمتع به من ثقافة غزيرة، إضافة أن أدبه لا يشوبه رنق ولا كدر إلى جانب الصداقة العميقة التي تربط بين عزيز وحمزة واقتناعه بكونه شخصية استثنائية من ذلك الجيل، ما جعله يقف على بعض شعره وحِكَمه وأفكاره ومواهبه برؤية ناقد حصيف وقلم فنان، والحديث يطول لو قصدت إلى الشاهد والمثل. سنوات المشقة والكفاح تفتحت عينا الطفل عزيز ضياء بن زاهد بن سلطان بن مراد في المدينة النبوية بحي الساحة والعالم يدق طبول الحرب العالمية الأولى والضعف يدب في أصقاع كثيرة من العالم الإسلامي والدولة العثمانية باتت أقرب إلى التمزق والانحدار بسبب الصراعات الداخلية على سدة الحكم ناهيك عن المواجهات العسكرية مع أوروبا والثورات المشتعلة في بعض ولاياتها، فعصر هذه ظروفه حري به أن يكون ذا مستقبل غامض والحياة به توشك أن تكون بلا هدف. إلا أن والدته السيدة فاطمة بنت أحمد صفا التي تنحدر من أسرة صوفية جبلت على حب العلم وكثرة العبادة رأت أن تعليم ابنها أمر لا مناص منه، فألحقته وهو في ربيعه الخامس بكتاب الشيخ العريف محمد بن سالم ليحفظ ما تيسر له من سور القرآن ويتعلم القراءة والكتابة، وسرعان ما أظهر الطفل عزيز نجابة ونجاحاً، وفي أثناء تلك المرحلة تأسست المدرسة الفخرية الهاشمية ما جعل والدته تدفعه إليها ليكون أحد طلابها على أمل أن يتخرج فيها، وما هي غير سنوات قليلة حتى عُلِقت الدراسة لأسباب الحصار أيام حاكمها الوالي عبدالمجيد باشا، وحين احتوتها قوات الملك عبدالعزيز دبت الحياة فيها وغشتها الطمأنينة. إن رحلة الفتى عزيز ضياء مع التحصيل العلمي جد غريبة ومتنوعة الأماكن، فلا يلبث في معهد حتى تروق له مدرسة أخرى، ولا ينفك من الدراسة في كلية حتى ينبهر بجامعة أخرى. وهكذا دواليك، فقد نزح إلى مكة لدراسة الطب في مدرسة الصحة، فهرب منها لينضم إلى المعهد السعودي، وقبل أن يتخرج فيه طاب له أن يسافر نحو القاهرة فالتحق بمدرسة الخديوي إسماعيل ثم عاد لبلاده، بعدها ارتأى أن ينضم إلى الجامعة الأميركية ببيروت فكان له ذلك، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية قد أجهضت تحقيق مناه لتعود إليه فكرة أخرى وهي الالتحاق بمعهد التحقيق الجنائي التابع لكلية الحقوق بجامعة القاهرة وهذه المرة تقف ظروفه المعيشية دون إتمام دراسته. ليعود مرة أخرى إلى مكةالمكرمة، وأزعم أن هذه التجارب وما تحمله من عقبات وصعاب خلقت لدى الشاب عزيز القدرة على مقاومة قسوة الحياة والتعايش مع الظروف المحيطة مهما كانت قسوتها، ولو تأملت حياته العملية لوجدتها لا تبتعد كثيراً من مرحلة الطلب، فقد دارت حياته الوظيفية بين جملة من القطاعات الحكومية والأهلية، ثم يتجه به قدره نحو القطاع الخاص أو يتجه نحو عشيقته الصحافة ليكون مديراً عاماً لمؤسسة عكاظ الصحفية بل ورئيساً لتحريرها وبعد أقل من عامين يُختار رئيساً لتحرير صحيفة المدينة، ومن خلال هذه التنقلات في غير وظيفة وفي أكثر من منصب يكون بذلك قد حنكته التجارب وخلقت لديه دبلوماسية في التعامل مع الآخرين لا سيما أن الأزمة تلد الهمة ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق. رحلة مع المعرفة لا جرم أن أديبنا عزيز ضياء من أبرز أدباء جيل الرواد، بما ألف وترجم وذلك يعود لثقافته العميقة التي سلخ من عمره سنوات طويلة للحصول عليها فقد عرفه مجايلوه بنهمه الشديد للقراءة، وقد عشقها صغيراً حين هبط مكةالمكرمة حيث مكتبات باب السلام بجوار بيت الله الحرام، فيعكف على كتب الأصول في تراثنا الأدبي شعره ونثره ليكَوّن قاعدة صلبة ينطلق منها في عطائه الأدبي، وهذه أيضاً ثمرات مطابع بيروتوالقاهرة تمد الحجازيين بأحدث الإصدارات فيأخذ منها كل طارف وكل وتليد لتجعله في مقام الخبير بحركة الأدب العربي من حيث مواضيع المؤلفات التي نهل منها أو من حيث التيارات والمعارك الأدبية التي خبرها، لا سيما أن عزيزاً قد سافر للقاهرة وبيروت سنوات الطلب فعب من منتوجهما الأدبي ما لا يتاح لغيره من الرواد، ولا نستطيع أن نقرأ مشوار عزيز ضياء الثقافي دون أن نشير إلى دوره في ترجمة روائع الآداب العالمية إلى القارئ العربي، فإنجليزيته لا تقل تفوقاً من عربيته لكونه تدرب على تعلمها بنفسه منذ صغره وأخذ يتابع الإذاعات الأجنبية ويتزود من الصحف الناطقة باللغة الإنجليزية، فصفت لغته وتكشفت له عن أعمال غربية خالدة، والأهم من ذلك قدرته الفذة في قراءة عيون الروايات الغربية ومسرحياتها وطال إدمانه لهذه الأعمال التي هام بها ليكون بذلك الوحيد -فيما أظن- من أقرانه الذي منح قُراءه نوافذ جديدة من آداب الأمم الأخرى، فسدت مسداً كريماً في الساحة الثقافية وهو بذلك يؤسس لهذا الفن في بلادنا بلا جدال. المقالة فنه الأول ينهض أدب عزيز ضياء على النثر وتحديداً المقالة بشتى أنواعها: الأدبية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، والفن الآخر الذي مارسه بتميز هو: السرد بشتى فروعه (القصة، الرواية، المسرحية، السيرة، أدب الطفل، كتابة السيناريو) وفي كل فن من هذه الفنون أحرز تفوقاً فيه ونال ثقة قارئه، ولك أن ترى منتوجه مما كتبه في المقالة لترى حضوره الباكر في الصحافة السعودية فكتب في صحف (أم القرى - صوت الحجاز - البلاد السعودية - البلاد - المدينة - عكاظ - الرياض - المنهل - اقرأ - اليمامة)، وغيرها من الصحف، وهذا لعمري يبرهن احتفاء الصحف بقلمه الرشيق وتكالبها عليه وقبل ذلك كان. وقد أحسنت اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بجمعها لبعض إنتاجه الأدبي ولا سيما مقالاته المتفرقة في بطون الصحف، فجاءت في أكثر من مجلد، وحظيت بمقدمة أنيقة ورشيقة من تلميذه وصديقه الأديب الدكتور عبدالله مناع. ولو دققت النظر في بنائه للمقالة لوجدت أنها تقوم على البساطة والسهولة والوضوح مع الدقة واستقامة التراكيب وسلامة التعبير وقد يعرج نحو السخرية متى ما أراد الموقف ذلك ويغلب على جل مقالاته نزعته للإصلاح ودعوته للتجديد. ضياء بين الإذاعة والتلفزيون ثمة علاقة حميمة بين أديبنا عزيز ضياء و(المايك) تمتد سنوات طويلة من العشق، فكثير من المتابعين للإذاعة قد ألفوا صوته واستمعوا لبرامجه المختلفة، فقد عرف بتعليقاته الاجتماعية أو تحليلاته السياسية وتغطيات للمناسبات المختلفة وإعداده للبرامج الثقافية، ناهيك عن السباعيات والتمثيليات التي كتبها للإذاعة والتلفزيون ونالت حضوراً وإعجاباً من المتلقين، ولا يحق لي أن أنسى الدور الذي منحه لزوجه السيدة أسماء زعزوع (ماما أسماء) -رحمها الله- التي مازال اسمها عالقاً في ذاكرة المستمعين حين كانت تعد وتقدم برامج الأطفال والأسرة، بل إن عزيزاً وأسماء أورثا هذا الحب لابنتهم الأستاذة دلال التي ظلت في خدمة الإذاعة عقوداً طويلة إعداداً وتقديماً وإدارة حتى تسنمت أعلى منصب في إذاعة جدة، ولعل أجمل مقولة صادقة عن هذه الأسرة ما قاله الإعلامي الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، إذ قال: «ولا أظن أن منزلاً أو أسرة سعودية صارت «مجمع إذاعات» تضم الأب والأم والأولاد، مثلما هو بيت عزيز ضياء، دار الخبرة الإذاعية». وقد كشف الباحث أحمد الأخشمي في دراسته العلمية عن عزيز ضياء أن مخطوطه من الإبداع والترجمة أكثر من مطبوعة فقد أخرج غير ما ذكرنا: (ماما زبيدة) قصة، (كان القلب يقول) كلمات شاعرة (آراء في الفن والحب والجمال)، و(حصاد الأيام) و(عناقيد الحقد) و(كان القلب يقول) و(مع الحياة ومنها) و(مقالات منوعة في الفكر والمجتمع) وهي من فن المقالة و(الأغلال) مسرحية مترجمة. أما جهوده المطبوعة في مجال الترجمة فهي: (عهد الصبا في البادية) ذكريات، (قصص من سومرست موم)، (النجم الفريد)، (قصص من طاغور)، (العالم عام 1984) رواية إضافة إلى طائفة من الكتب التي خص بها عالم الطفولة تأليفاً وترجمة راجين أن تتعهدها المؤسسات الثقافية بالنشر لترى النور قريباً. لبى الأديب عزيز ضياء نداء ربه عن 86 عاماً قضاها بين كتبه وأوراقه وأقلامه ومحابره ينشد الحرية ويبحث عن الجديد، ويدعو إلى القيم والمبادئ، وكفى بهذا الإجمال تعريفاً. رحم الله عزيز ضياء أديباً وإنساناً، وطيب ثراه وأكرم مثواه. الأديب الأستاذ عزيز ضياء