لماذا نفعل ما نفعله؟ لأي شيء نتحرك قدّامنا؟ لماذا نقع؟ لماذا تقع علينا الأخطاء؟ لماذا نضلّ؟ نفقد براءتنا الأولى وصبابة قلوبنا وهذا الشعور الغض الطري الذي كان يهفهف بين خافقينا؟ أين يذهب شعور الذنب الأول؟ أين تذهب الحسرات الوليدة البريئة؟ أين تذوب عصرة قلوبنا؟ وأي وادٍ ذاك الذي يبتلع نداءات ضمائرنا المخبوءة؟ فتحية كانت تعرف، لكنها تقاوم، فتحية كانت تملك هاتفها، نداء خفي يخبر بما سيكون، بالفاجعة الكبرى، بالذنب الأعظم، يرسم لها مشهد خيانتها لزوجها عشرات المرات، لكنها تدفعه، بتصميم تدفعه، بالدعاء تدفعه، بالحذر تدفعه، وحينما وقع في النهاية، لم يكن بكاؤها سوى على خططها الهضمية التي ذهبت هباء، وكل اختبائها وحصونها التي بنت وانهارت سريعًا وخذلتها يوم حانت المصيبة. وفي النهاية تقرر فتحية الرجوع للقاهرة دون مشورة هاتف أو الإنصات لنداء الغيب الأزلي، لقد كان قرارها واختيارها، أن تفلت يد زوجها المحطَّم، وتفر من عربة القطار إلى قضبانه الحديدية، وتعود بلهفة للمدينة التي خلبت لُبها، وتذوب في زحمة الأفنديين والهوانم الذين طالما ضجت بهم القاهرة. الهاتف التالي كان مع قصة أخرى، سجين نقل إلى زنزانة جديدة، ولأن السجن يحبس عن الإنسان نفسه وخواطره وجدة الفكر منه كما يحبس عنه الهواء والشمس والنور والخلائق، ولأن الزنزانة الجديدة كانت آخر جدار من سجن الرجال وأول جدار من عنبر النساء، فقد أهاج هذا الخاطر مشاعر شتى في صدر سجيننا، وجرب أن يطرق الحائط المجاور مرة فإذا بطرقته يُرد عليها بمثلها وإذا بندائه يُجاب، وجاءت الإجابة طرقات لا تنتهي وأحاديث هامسة ليلية تدور عبر كوب زجاجي بينه وبين السجينة المجهولة مثيرة شيقة شبقة، وتستطيل المرأة الغامض في خيال السجين سيدة من لحم ودم وظل وماض واسم كذلك! وهذا الاسم وتاريخها الإنساني لم يصله عبر أحاديث الهمس المسحوق تلك ولكنها وليدة خياله، أمله وتطلعاته، وصارت فردوس امرأته المشتهاة، يعرف عنها بأكثر مما عرف يومًا عن امرأة طالت له عشرتها، ويتفحص جسدها ووجهها وشفتاها لكأنها حاضرة أمامه ماثلة بين يديه! ثم جاء نداء الهاتف المشؤوم، اختفت الطرقات وانتهت قصة الحب، ويحاول السجين المغلوب على أمره معرفة سبب هجرانها، وقتلها قصة حبه الوليدة، فيسأل الشاويش عن نساء العنبر، ليقول له هذا مفكرًا أنهن نقلن منذ ثلاثة أشهر! وقاطن الزنزانة هم أشخاص كثر يتم حبسهم لفترة لا تعدو بضع ليال ثم يُنقلوا ليجيء غيرهم! ويضحك السجين من تيهه وحيرته، لقد كان يعيش قصة حب مع وحدته، مع عقله وغربال خيالاته وأحلامه الجامحة، لكن هذا لدهشته لا يخفف من وطأة الغصة التي تعتصر قلبه، وكأن فردوسًا وجدت حقًا، وكأنها بادلته حبه، واختارت الرحيل عنه! النداهة مجموعة يوسف إدريس القصصية القصيرة التي صدرت عام"1969"، وتعد واحدة من أجمل وأبدع ما كُتب في القصص العربي قط، بأسلوب سهل ممتنع، رقيق وقريب إلى القلب، ألفاظه يسيرة لكن فيها من العمق والفصاحة ما يجعلك تُكبر كاتبها، الطبيب الكاتب الذي جاب العالم وعشق الكيمياء والعلوم تمامًا كما وقع في حب القلم واليراع والقصص والأدباء والحكايا، النداهة تضم عددًا من القصص القصيرة التي تتمحور في معظمها حول فكر الإنسان، ووجدانه وخيالاته وعقله، وحول الشطآن والرحلات التي يمكن أن تأخد تلك الأفكار صاحبها الإنسان إليها، وكيف من شأنها أن تغير منه، أن تقيده أو تحرره فكرة لا تموت ورأي محالٌ وأده، في خليط عبقري بين حياة الريف وحياة المدينة. النداهة حولت إلى فيلم عام "1975"، من بطولة ماجدة وشكري سرحان وشويكار وميرفت أمين وغيرهم، يحكي الفيلم قصة فتحية التي تركت الريف وراءها وعاشت مع زوجها حامد بواب العمارة الكائنة في واحد من أرقى أحياء القاهرة، المدينة الصاخبة المزدحمة التي لا تنام، وكيف ابتلعتها المدينة الكبيرة وهي تقاومها، وكيف وقع نذير هاتفها المشؤوم وهي تقاومه.