الحُريّة في الخيال، هي التي تضع الحدّ الفاصل بين كتابة القصة وكتابة السيرة الأدبية؛ فالقصصي حُرّ في الخلق والبناء، يملك أن يتخيّل مواقف وحوارات، وقد يلجأ في بناء الشخصية إلى بعض العناصر المستمدّة من التاريخ، ولكنه كثيراً ما يخلق العناصر التي يراها مُلائمة لمواقف شخصياته، فيتقمّص هذا أو ذاك، ويبني عالماً جديداً ليس له من صِلة بالواقع، إلا أنه شبيه به. أما كاتب السيرة، فلا بدّ له من مُذكّرات ورسائل، وشواهد وشهادات من الأحياء، يعتمد عليها أحياناً في كلّ خطوة. وكثيراً ما تكون الشواهد التي يعتمد عليها مُتناقضة أو ناقصة أو مُنحرفة عن موضعها، فلا حيلة له في مواطن النقص وانعدام الوثائق، فيقف مكتوف اليدين حائراً، وتصبح كتابة السيرة أمراً عسيراً أو مستحيلاً. وليس من المبالغة أن نُقرّر أن كتابة سيرة أحد الأقدمين عندنا تُعدّ أمراً مُعجزاً، وأن أكثر ما يُحاوله الكُتّاب اليوم ليس إلا جُهداً مبذولاً لترتيب بعض الروايات وتصحيحها، فليس لدينا الشواهد الضرورية من وسائل ومُذكّرات، وهناك اضطراب في الأخبار تبعاً لاختلاف الميول عند أصحابها، وأخذ هذه الأخبار دون تعيين الجهات التي تُحرّكها في الخفاء أو العلن، أمرٌ يقضي على الصحّة التاريخية المنشودة في كتابة السيرة. ثم هنالك شيء مهمّ لا بدّ أن نتذكّره ونحن نُعالج سيَر الأقدمين، وهو أنهم لم يكُن لديهم خطّ قويّ يفصل بين الخيال والواقع، فهذا الفصل الدقيق سِمة من سِمات العصر الحديث، ولذلك تمتزج الحقيقة بالخيال في كثيرٍ من الأخبار التي وصلتنا، لأن الخبر ربّما كان أمراً يستحقّ التسجيل في وقته، دون نظرٍ إلى الظروف الكثيرة المُحيطة من حوله. ومن الأمثلة الحديثة للسيَر ذات الطابع الأدبي، نذكر هنا «حياة الرافعي» لمحمد سعيد العريان، التي ربّما كان ينقصها العنصر المهمّ الكبير الذي يجب أن تقوم عليه السيرة، وهو التمشّي مع حركة النموّ والتطوّر في البناء، فلم يرسم الكاتب للرافعي صورة مُتدرّجة مُكتملة. كذلك «العبقريات» للأستاذ محمود عباس العقّاد، ليست سيَراً بالمعنى الدقيق، ولكنها تفسير لبعض مظاهر الشخصيات الكبيرة، والأحداث والأقوال المُتعلّقة بها، على قاعدة شبيهة بالتحليل النفسي، وليس هو، وإنما هي لباقة في العرض، ومهارة في اللمح والتفسير. أما ميخائيل نعيمة، فقد نجح في سيرة «جبران» لأنه استوفى فيها عناصر السيرة الفنية ببراعة، وفيها اكتمل للسيرة وجودها في الأدب العربي الحديث، من حيث الغاية والتطبيق. ومن السيَر المقبولة، سيرة «منصور الأندلس» لعلي أدهم، فهي تتمتّع بالبناء المُتدرّج، وتدلّ على الفهم العميق لنفسيّة بطل السيرة، وما يدور حوله من مُلابسات، ولكنها من جانب آخر، هادئة بطيئة الحركة، وتنقصها الحماسة، ووقدة الذهن. ومن المُلاحظ على المحدثين من كُتّاب السيَر على وجه العموم، قِلّة اهتمامهم بالوثائق، فقليل هم الذين يحتفظون بالمُذكّرات أو الرسائل. على أنه قد قوي الميل أخيراً عند السياسيين أو المُتّصلين بحياة الساسة والفنّ، إلى كتابة مُذكّراتهم، وتسجيل الرسائل التي تلقّوها أو صدرت عنهم، حتى كأن السيَر في المستقبل ستكون سهلة ميسورة، حين يتناول الكاتب حياة رجل سياسي أو حياة أحد العاملين في ميدان الفنّ. أما فيما يتعلّق برجال الفِكر والأدب، فإن الأمر لا يزال غامضاً، وتسجيل المُذكّرات واليوميات، والاحتفاظ بالرسائل، مما لم ينل بعد العناية الكافية.