في البدء كان أول التعبير بالرسم، فقد سبق الرسمُ الكتابةَ عبر التاريخ البشري، حيث مثلت الرسومات الصخرية الأولوية في التعبير عن بواطن النفس البشرية، وتوثيق اللحظات والمواقف. ولعل ما تقوده وزارة الثقافة الآن في توثيق تلك الرسوم وترقيمها يعزز البعد التاريخي والتراثي في الجزيرة العربية، التي تُعد من أكبر المعارض الطبيعية المفتوحة للمعرفة البشرية، ويؤكد عمق هذه البؤرة البشرية في إثراء مجتمع المعرفة، ووصل حبال الثقافة البشرية باعتباره تراكماً فكرياً تطور مع مرور التاريخ، نتيجة اتساع معرفة الإنسان وترقي نظرته لنفسه والحياة وإعمارها. وفي كتابه بعنوان: «مسيرة الفن التشكيلي السعودي»، يرصد الفنان الناقد التشكيلي السعودي، عبد الرحمن بن إبراهيم السليمان بداية هذا الفن، فيشير إلى أن المشوار بدأ من اكتشاف المواهب الفنية الشابة، لذا نشطت منذ أواخر الخمسينات حركة البعثات الدراسية باتجاه إيطاليا ومصر، ونتج عنها تخرج الجيل الأول من الفنانين، الذين عادوا إلى المملكة خلال الأعوام 1963 – 1965م، يحملون شهادات عليا في تدريس مادة الفنون من أكاديميات روما والقاهرة. معهد التربية الفنية للمعلمين.. البداية ثم جاء تأسيس معهد التربية الفنية للمعلمين في الرياض عام 1966، كأول الغيث في عملية إعداد المدرِّس الوطني المتخصص للمرحلة الابتدائية، باعتبارها القاعدة العريضة والأساسية في بنية التعليم. وفي هذا المعهد يدرس الطالب مواد تخصصية بينها الرسم والتصوير، والزخرفة والخزف، وأعمال الصلصال، والنجارة وخامات البيئة وطباعة المنسوجات، واستُقدم للتعليم فيه عدد من المعلمين العرب، الذين كان بعضهم يمارس الفن. كما درس فيه عدد من الفنانين السعوديين المعروفين بينهم: بكر شيخون، وعلي الرزيزاء، ومحمد الرصيص، وغيرهم. بعد الرياض.. جاء دور جدة ثم تأسس في جدة مركز للفنون عام 1967م، أشرف عليه الفنان عبد الحليم رضوي، وأسهم في تنظيم بعض المعارض البارزة ومنها المعرض الجماعي للفنانين السعوديين الذي أقيم في جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية عام 1968م، والمعرض المشترك للفنانين السعوديين والإيطاليين. واستمر في ذلك الوقت إرسال الدولة للطلبة السعوديين إلى الخارج، للالتحاق بمعاهد الدراسة، فظهر جيل من الفنانين من أبرزهم: عبد الستار الموسى، والفنانات ومنهن: صفية بن زقر، ومنيرة الموصلي. أول معرض جماعي يذكر الكتاب الذي صدر عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 2001م، وأُعيدت طباعته عام 2012م بجهود وزارة الثقافة من خلال وكالتها للشؤون الثقافية؛ أن أول معرض جماعي لفناني المملكة أقيم في الرياض عام 1969م، تحت إشراف الإدارة العامة لرعاية الشباب، التي تحولت عام 1974م إلى مؤسسة حكومية. ثم أُنشئ فيها قسم للفنون التشكيلية. ومنذ ذلك الحين أخذت حركة المعارض شكلاً جديداً، فنظمت المسابقات وأُقيمت المعارض، وكان أبرزها معرض «روائع الفنون الإسلامية»، ثم وُضعت خطة خمسية سنوية لاكتشاف المواهب الجديدة، واقتناء الأعمال لضمان استمرار تطوير الفن. ونظمت الرئاسة العامة لرعاية الشباب الكثير من المعارض الفردية والجماعية، لفنانين عرب وأجانب داخل المملكة. وشاركت بأعمال للفنانين السعوديين في المهرجانات، والمناسبات الخليجية والعربية والدولية: كالأسبوع الثقافي الخليجي في باريس عام 1981م، والأسبوع الثقافي الخليجي في طوكيو عام 1985م، ومعرض الفنون التشكيلية لشبان مجلس التعاون لدول الخليج عام 1989م، ومعرض الفن السعودي-البحريني، وسواها من المعارض. دعم الدولة قديماً للفن التشكيلي نشطت الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة في دعم الحركة التشكيلية السعودية، فتأسست الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عام 1973م، وكذلك دار الفنون السعودية التي أنشأها الفنان الراحل محمد السليم عام 1979م، والمركز السعودي للفنون الذي أسسته الأميرة نورة بنت بدر، والفنانة منى القصيبي في جدة عام 1988م، وبيت التشكيليين الذي تأسس في جدة عام 1993م. هذا إلى جانب التجمعات الفنية والمراسم، ومنها «جماعة فناني المدينةالمنورة» عام 1981م، و»جماعة درب النجا» في أبها عام 1991م، و»جماعة عشتروت» في القطيف عام 1993م، وغيرها من المراسم. دور المرأة السعودية في حركة الازدهار تُعد الفنانة صفية بن زقر من أوائل الفنانين المؤثرين في الحركة الفنية، وقد رسمت المدينة والعادات والتقاليد في المنزل والحارة وأفراح الناس ومناسباتهم. وتشترك معها فوزية عبد اللطيف، المتأثرة بها في تناول البيئة الاجتماعية مع اختلاف في التقنية والموضوع. كما اتجه بعض الفنانين للتعبير عن مواقف إنسانية واجتماعية بلغة حديثة، تعتمد على التبسيط كما في أسلوب الفنان عبد الجبار اليحيا، في معالجته موضوع المرأة، وبرزت محاولات الفنانة شادية عالم في تناولها موضوع عالم المرأة بتعبيرية عاطفية مشحونة بالتشكيلات الزخرفية الشعبية. تداخل بين الرسم والنحت في هذا الوقت بحث آخرون عن صيغ ومحاولات تستفيد من الإنجازات الفنية الحديثة، لا سيما الخامات الطبيعية منها أو المصنّعة، سعياً لاكتشاف رؤى جديدة للعمل الفني. ومن هنا استُعمل الجلد والورق والأسلاك والمنسوجات والحديد والحبال وغيرها من المواد التي عادة ما تكون ذات وظائف هامشية، أو مواد مهملة في نظر المجددين والمحدثين. ومن الذين استخدموا الخامات الجديدة: منيرة موصلي، وسعد الخليوي، وعبد العظيم الضامن، وفايز الحارثي، وعبد الوهاب عطيف، وغيرهم، أما الفنان فيصل سمرة فشكّلت أعماله وفق منطلقات تجديدية، باحثة عن طاقات اللون وعن إيحاءات تتفاعل مع المعطى التراثي، وخصوصاً مع الصحراء في تميز ضوئها واتساعها. وإلى أواسط السبعينات أيضاً يعود الاهتمام بالأعمال النحتية والخزفية والفنون التطبيقية، مع بداية انتظام المعارض التي كانت تقيمها الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وتخصيصها لجائزة الفن التطبيقي والمجسمات التي كان لها أثرٌ في تشجيع الفنانين. ومن الأسماء البارزة في النحت التي يذكرها الكتاب: الفنان الراحل عبد الله العبد اللطيف، وعلي الطخيس، وأحمد الدحيم، ومحمد الغامدي، ومحمد اليحيا. ومنهم من نال جوائز محلية ودولية كالفنان علي الطخيس، وله حضور مميز في الساحة التشكيلية السعودية. أربعة أجيال فنية.. قسم الكتاب الفنانين التشكيلين إلى أربعة أجيال فنية: -جيل الستينات: جيل المثابرين الذين مهدوا للحركة التشكيلية، وفي طليعتهم: عبد الحليم رضوي، وصفية بن زقر، ومنيرة موصلي. -جيل السبعينات: الذي أثرى الساحة التشكيلية بالنتاجات الفنية المتنوعة. -جيل الثمانينات: الذي تابع اندفاعة الجيل الثاني نحو آفاق جديدة. -جيل التسعينات: وهو الأكثر تمرداً على ما هو منجز، بل الأكثر سعياً الى المزيد من التجاوز، وتأكيد الشخصية. الفن التشكيلي في ظل رؤية 2030م بعد إطلاق رؤية 2030م اكتسب الفن التشكيلي دعماً رسمياً واضحاً وصريحاً، فقد عززت المملكة من دعمها للفن، كما خصصت هيئات بعينها لدعم الفن، والميزانيات الضخمة تُعد رهانًا على الفنان السعودي؛ فالبيئة السعودية غنية وخصبة بالفنون التراثية والشعبية ناتجة عن عادات وثقافات تبلورت نتيجة السنوات، ويعد إحياؤها وتقديمها للعالم وتعريفه بها بصور تليق بحضورها واجبًا لا يجب أن يتجاهله أي فنان، أو فنانة تجاه وطنه. كما شهدت السنوات القليلة الماضية حركة فنية وتطوراً من حيث كمية شغف الفنانين لتعلمه، والتحاقهم بكليات التصاميم والفنون في الجامعات، وأيضاً فتحت المعاهد لتدريب أكثر في مجالات عدة، إضافة إلى المعارض والملتقيات بشكل مكثف التي أصبح لها جمهورها، كما باتت تعرض اللوحات بالشوارع وفي الساحات العامة بعد أن كانت تقتصر قديماً على المعرض، وأصبحت اللوحات الفنية التي رسمها فنانون كبار تزين أروقة المؤسسات الحكومية، ومنها الديوان الملكي، وذلك دعماً للريشة السعودية، وافتخاراً بالمنتج الفكري السعودية وتحفيزاً للأفكار الإبداعية المقبلة. جهود وزارة الثقافة.. وملتقيات شقراء ويشير كل هذا إلى نجاح الجهود التي تبذلها الجهات المعنية بالحركة الفنية بالمملكة، وبمقدمتها وزارة الثقافة، في تعزيز التواصل مع المثقفين والفنانين والمبدعين السعوديين، بمختلف قطاعات الفن والإبداع، وذلك في إطار حرصها على خلق حالة من الحراك الثقافي والفني الدائم والثري، والمتجدد على أرض المملكة. وتتكامل تلك الجهود بما يُقام من فعاليات ثقافية في المحافظات المختلفة بالمملكة، وتأتي شقراء في مقدمة تلك المحافظات إذ شهدت تنظيم ملتقي شقراء للفن التشكيلي «رسم» عام 1442ه، وملتقى شقراء للنحت عام 1444ه، وقد نجح الملتقى الأول والثاني في دعم الإبداع الفني، وإحداث حالة من التكامل بين الفنانين والفنانات من الجيل القديم والحديث، الذين يستلهمون فنهم من التراث الثري للمملكة، وثرائها الطبيعي، إضافة إلى إذكاء تنوع المدارس الفنية. وتأتي تلك الملتقيات التي تقيمها شقراء لتتوافق مع رؤية 2030، وتروي عطش أصحاب الفكر والثقافة والفن، وتكشف عن طاقات وشرائح مبدعة في كل مناطق المملكة الشاسعة، وتصنع حالة من الشغف لمتابعة وقائع المشهد الفني والثقافي داخل كل ربوع المملكة، وتسهم في دعم الحركة الفنية السعودية المعاصرة، وتشجيع الوجوه الفنية الشابة على الانخراط في شتى الملتقيات الفنية، من أجل تحقيق الوصل والتواصل بين الأجيال الفنية، ونقل خبرات جيل الرواد من التشكيليين في المملكة إلى الفنانين الشباب، وهو جهد بدأ عام 1442ه وسيظل مستمراً إلى أن تحقق تلك الملتقيات أهدافها كاملة، وأهمها: الارتقاء بالفنون السعودية إلى مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال عالمياً، مع تحقيق المزيد من الحراك الفني والثقافي داخل ربوع المملكة. كتاب مسيرة الفن التشكيلي السعودي من أعمال أحمد الدحيم من أعمال د. فهد الجبرين من أعمال سعود الدريبي من أعمال مها القطيان