لا أظنني الوحيدة في ذلك بالتأكيد، لكن المسلسلات الطبية التي تدور أحداثها بين أروقة المستشفيات وداخل حجرات المرضى ووسط حفيف الأسرة وبين رائحة المعقمات وقصص المرضى التي لا تنتهي ولا تكف عن التأثير فيك لكونها ببساطة تحكي عن المعاناة في أشدها، لهي من أكثر العروض التلفازية التي تجذبني والمئات غيري وتنجح دائمًا في استثارة الاهتمام حولها. وما أثار اهتمامي مؤخرًا هو مدى اختلاف رؤية صنّاع هذه المسلسلات، أو مدى اختلاف تناول كل منهم للموضوع ذاته، وما يترتب على ذلك من اختلاف جذري للاتجاه الذي يسير فيه المسلسل وتتشعب على إثره أحداثه. في المسلسل الأمريكي الأشهر على سبيل المثال greys anatomy كانت الدراما والحزن والرومانسية هي سيدة الموقف، مع الأغاني العاطفية التي تنساب في خاتمة كل حلقة وصوت ميرديث الرقيق يحكي في مستهلها عن صراع الحياة وأناسها، وغالبًا ما تؤدي المواقف اليومية مع المرضى إلى تغيير في وجهات النظر وفي القرارات التي سيتخذها أبطال القصة، وبعيدًا عن كون المسلسل مثله مثل العشرات غيره لا يمكن مشاهدته بعد موسمه الرابع حيث يُفقد تمطيط الأحداث واختفاء شخصيات رئيسية أي متعة أو مغزى من قصة المسلسل الأساسية، إلا أنه أحد أكثر العروض التلفازية رقة وتأثيرًا ودرامية على الإطلاق. وفي مسلسل طبي آخر يأتي الدكتور هاوس، شيرلوك هولمز الطب، الطبيب المعقد الساخر العبقري، الذي لا موهبة لديه ولا شيء يسترعي انتباهه غير حالات المرضى مجهولة التشخيص، وعلى غرار العبقري البلجيكي الذي يفتش بين خلاياه الرمادية عن القاتل هركيول بوارو، كذلك يفعل دكتور هاوس غير أن القاتل هنا يعمل من داخل جسد ضحاياه ولم تكتمل جريمته بعد، وإذا كان المريض محظوظًا بما فيه الكفاية فسينجو من براثنه، وفي تشابه واضح بينه وبين بطلي أجاثا كريستي فإن هاوس يتمتع بمراقبة نفسية المرضى وذويهم، باحثًا عن تعقيدات الإنسان ومُثُله واستقامته وانحرافاته داخلهم، وكيف يتصرف تحت الضغط وبُعيد الرحيل وخلال أحلك أوقاته، وعلى النقيض فإن الطبيب العبقري لا يملك أدنى معرفة أو قدرة على الاختلاط بأي من المحيطين به، عاجزًا أو غيرَ راغب في فهمهم، والثلاثي الأقرب له هم ثلاثة أطباء شباب لامعين يساعدونه في التشخيص ويؤدون عنه المهمة التي يكرهها بشدة ولا يلجأ إليها إلا عند الضرورة القصوى ألا وهي التواصل مع المريض والقيام بعلاجه مباشرة! وصارت شخصية الدكتور هاوس علامة في صناعة المسلسلات التلفازية بعلبة الدواء المسكن الذي يتناوله كل دقيقة وكأنه حلوى وعرجه المزمن وعصاه التي يتوكأ عليها وسخريته اللاذعة ونقده الذي دائمًا ما يكون مزعجًا وفي محله تمامًا، وكما حظي بوارو بهستنغز، وشيرلوك بواطسون، فهاوس أيضًا يملك "واطسنه"، بوصلته الأخلاقية، وهو طبيب الأورام وصديقه الأقرب والإنسان الوحيد الذي يعرفه على حقيقته وأي إنسان وحيد حزين هو، وبالطبع الشخص الوحيد الذي لا يخشى أن يفصح عن رأيه أمامه صراحة ويملك حق توبيخه عندما يشطح بهاوس جنونه، في هذا المسلسل المواقف الإنسانية والغموض وشخصية هاوس الآسرة والعبقرية في ليّ القصص وسردها بطرق مبتكرة وغير مألوفة، هؤلاء هم النجوم الأبرز في المسلسل. ومؤخرًا وقعتُ على مسلسل أُذيع في بداية الألفينات، وهو scrubs ولم أتخيل أبدًا أن الطب والكوميديا يمكن لهما أن يندمجا بهذا النجاح! مِن منظور فكاهي خالص يتناول المسلسل قصة الطبيب الشاب المبتدئ J.D، ومواقفه مع المرضى ومع الأطباء المسؤولين عنه ومع زملائه الذين بداهة يُمسون مع الوقت أقرب المقربين إليه ويشكلون معًا أبطال الحكاية، المسلسل يحوي شخصية طبية إنسانية للغاية وفكاهية لأبعد الحدود وأُديتْ بعبقرية متناهية وناسبت صاحبها إلى حد مذهل، وأعني بذلك شخصية الطبيب بيري المسؤول الأول عن البطل ورفاقه، في اليوم الأول له يشعر البطل براحة عظيمة مع عميد الطب في المستشفى العجوز، الرجل يبتسم طوال الوقت ويمطرهم بالكلمات المطمئنة ويربت على أكتافهم مهدئًا دائمًا! في حين لا يكون الطبيب بيري سوى مصدر إزعاج شديد بسخريته اللاذعة منهم ونكاته وصفيره لندائهم، لكن المفاجأة تكون حين تسقط الأقنعة وينكشف الوجه الحقيقي لكل منهم، فعميد الطب لا تهمه مصلحة أيهم، في الواقع تحتل المستشفى وسلامتها وأموالها المقام الأول في قائمة اهتماماته، ولا يوجد طبيب مبتدئاً كان أم مخضرماً يمكن له أن يخلّ بهذا الترتيب، في الوقت الذي تثبت فيه المواقف الإنسان الذي يختبئ تحت سخرية دكتور بيري ودعمه الدائم لهم والنصح الذي يقدمه ملفوفًا بسخريته، وراق لي خاصة موقفه حين لاحظ البطل أن هناك عملية مدرجة في سجل مريض متوفٍ فقام بالتبليغ عنها مزهوًا بدقة ملاحظته! ليكتشف بعدئذ أن الطبيب الساخر هو من قام بهذا لتُجرى العملية لمريضة أخرى لا تملك تأمينًا غاليًا كالذي يملكه المتوفي، وليقوم الدكتور بيري بالعملية بعدها على أية حال معرضًا نفسه لخطر الفصل من عمله دون أن يتردد أو يُشرك أحداً آخر في "جريمته" تلك، وبطريقة ما تذكرني هذه الشخصية بشقيقي عبد الرحمن، أخي الذي لم يفشل يومًا في إضحاكي وإسعادي، قريبين كنّا أم بعيدين، شقيقي الأصغر الذي يحمل نفس ذوقي في الكتب والذي أشتاق إليه بشدة، والذي يحمل إنسانًا عظيمًا بداخله، ويُمتعني للغاية وهو يحكي لي عن المواقف الطريفة التي تصادفه أثناء عمله كطبيب تحاليل مبتدئ.