لعل المسلسل الأمريكي الأشهر فريندز هو الأكثر تأثيرًا واستمرارية وحضورًا بين عشاقه ومشاهديه حتى اليوم، والأكثر أنه يحصد مزيد جمهور له طوال الوقت، العرض التلفزيوني الوحيد الذي اشتركت أجيال متعاقبة في حبه، يستوي في ذلك مواليد الألفية الجديدة ومواليد التسعينات ومن قبلهم، حتى بالرغم من كون المسلسل قد بدأ إنتاجه عام "1994" وعرضت آخر حلقة منه منذ العام 2004. ما يجعل الجميع محتارًا بشأن فريندز هو مدى التأثير والجمهور الذي يحصده من الشرق الأوسط، وهو تأثير قديم بدأ قبل أن يحصل الاكتساح الحالي لمنصات المشاهدة التي تعرض أعمالًا من شتى الدول وبكل اللغات وكل الثقافات، المناسب منها وغير المناسب، حيث إنه من الطبيعي أن يكون لفريندز هذا الأثر على سكان المدن الأمريكية المزدحمة الصاخبة، أناس يعيشون نمط الحياة الغربية حيث يُلفظ الواحد منهم منذ صباه غريبًا في هذا العالم وعليه أن يشق طريقه وحده دون أبوين أو أي دعم كان، وبغض النظر عمّا يظهره المسلسل من متعة وضحك ولذة أثناء عملية "شقّ الطريق " تلك، إلا أن هذا قد ينافي الواقع بالكلية، فالحياة في مدينة لا تعرف الرحمة كهذه ولم يتعلم سكانها أن يحظوا بشيء من الرأفة لفقرائها أو العطف على أيهم ممن يعثر حظه وتُقفل طرقه قد تخلو حرفيًا من أيتها متعة أو مرح، لكن لعل هذا ما جعل فريندز بهذه الشعبية هناك، الفرصة التي أتاحها للتنفيس، أن تسخر من آلامك بطريقة أو بأخرى وأن تؤمن أن هناك صداقات تستمر حقًا وتحمل من الصدق والانتماء والدعم بهذا القدر، بغض النظر عن أنه حتى هذه الصداقة قد التفّتْ وتحولت لأشياء أخرى مع تطور أحداث المسلسل، لهو أمر ملهم وجميل بلا شك بغض النظر عن مدى وجودها فعليًا على أرض الواقع الصلبة والقاسية، لكن لماذا هذا الأثر علينا إذًا؟ فلا شيء يربطنا بهكذا أسلوب في الحياة، والصداقة عندنا بقدر ما تكون جميلة وحقيقية فعلًا إلا أنها لا تملك قدرة تدميرنا إذما اختّلت أو انحلّ وثاقها، نحن في مجتمع حيث الأبوين هم كل شيء وهم السند اليوم ونحن كذلك غدًا، مجتمع حيث نبحث منذ البداية عن الاستقرار والأسرة الدافئة وشراكة لا ترحل وتتركنا قط، لعل السبب إذًا هو جاذبية الممثلة الأمريكية التي اشتعلت شهرتها من وقتها جنيفير أنيستون، أو لعله تفرّدُ أبطالها كلٌ بشخصية يتميز بها، أو لعله احتواؤها على بعض المواقف الدرامية الحياتية التي قد نتشارك فيها جميعًا عن حق، أو لعله الكوميديا، النجم الأبرز في المسلسل والتي تجيء عفوية وغير مستهلكة وتسقط في قالب كل شخصية بما يتلاءم معها، لكن لعل العامل الأبرز في شهرة فريندز هو مناسبة الشخصيات لمؤديها الحقيقيين، كل من تابع الممثلين في حياتهم من بعدُ عاين بنفسه كيف أن كلًا منهم قد لا يكون حاول التمثيل بحق بل عاش ببساطة شخصه، وهذا يعود لصناع المسلسل الذين أبدعوا في اختيار الشخصيات وتوزيعها بهذا الشكل. فريندز أفسد من الأخلاق ما لا يعُد، هذا مفروغ منه، وأعني هذا حتى على مجتمع مثل المجتمع الأمريكي، حيث امتد الأثر السلبي حتى على أولئك، وهو مسلسل يناقض نفسه في كل ما يحاول إثباته، فلا الصداقة بقيت صداقة ولا حالة العزوبية استمرت جميلة وطريفة وجذابة فيما يتقدم الأبطال في العمر، وتغيرت الأهداف بحيث صار كلهم يجاهد في محاولة للاستقرار وإيجاد شريك مناسب تسهل معه صعاب الحياة. وتقريبًا كل العروض التلفازية اقتُبس بعضها من عروض شهيرة سابقة أو على الأقل تأثرت بها في كثير من حلقاتها، يمكن القول إن كل مسلسل له أخ أكبر قد سبقه، المُلهم الأول الذي طُبع على صناع المسلسل وكان دافعهم الأكبر لإنتاج العمل الجديد، والأخ الأكبر لفريندز هو مسلسل الثمانينات "ساينفيلد"، في الحقيقة أغلب العروض التلفازية التي ذاع أمرها في الثمانينات لهي أجمل وأوقع وتستحق شهرتها أكثر من أي عمل حديث، ساينفيلد يحكي عن حياة العزاب أيضًا، لكن الشخصيات لا تشبه بعضها، والأبطال الأساسيون الثلاثة كلهم رجال ترافقهم صديقة واحدة قديمة لهم، وكثير من أبطال فريندز ظهروا في حلقة أو اثنتين في المسلسل بعد ذيوع شهرته، بل إن كثيراً من سيناريوهات الحلقات الأولى من فريندز هي نصوص رفضت في الأصل من قبل صناع مسلسل ساينفيلد، واليوم أجدني أستغرب كيف طغت شهرة هذا على ذاك، وكيف لا يكاد أحد اليوم يذكر ساينفيلد، وربما هذا يعود للدراما والرومانسية التي احتشدت في مسلسل فريندز في حين خلت تقريبًا من أحداث أخيه الأكبر، فقد كان مسلسل ساينفيلد حسب قول مبتكريه وبقي يتمحور حول "اللا شيء" ولذا خلت أحداثه من أية تطورات وانتهى فجأة بلا منطقية تاركًا مصير أبطاله معلقًا ومجهولًا للأبد. أحد المسلسلات الثمانينية الجميلة للغاية هو مسلسل الطبيب النفسي "فرايزر" الذي يغلق عيادته ويعود للمدينة التي يعدها موطنه ويفتتح برنامجًا حواريًا إذاعيًا يعالج فيه مشاكل المرضى على الهواء مباشرة، وكيف تدور كل الأحداث حول علاقته بأبيه العجوز صعب المراس الذي صار يقطن عنده وأخيه الأصغر الذي يشاركه ذات المهنة وذات الاهتمامات ورغم ذلك تضع الحياة كلاً منهما على طرفي نقيض، الأخ الأصغر منه هو المسلسل التلفازي الذي بدأ عرضه عام 2004 "كيف قابلت أمكم"، حيث يظهر تأثر صناع المسلسل به في كل حلقة تقريبًا. ومتابعة للتأكيد على أن عروض الثمانينات كانت تحمل معاني أعمق وفيها شيء من الجدة والابتكار والواقعية ما خَلَتْ منه تمامًا المسلسلات الحديثة، فإن العرض التلفزيوني الشهير "فُل هاوس أو بيت ممتلئ" كان واحدًا من أجملها وأعمقها على الإطلاق، عن والد شاب يخوض غمار الحياة بعد وفاة زوجته حديثًا، حاملًا معه هموم ومشاكل ومسؤولية تربية ثلاث فتيات صغيرات لا يزيد عمر كبراهن على العشرة أعوام، وفيما يقرر أن يستقر معه أخوه الصغير وصديق عمره لمساعدته مع الفتيات، تبدأ مواقف طريفة كثيرة تولد بين الفتيات والرجال الثلاثة الذين يحاولون إفهامهم معاني الحياة وفهمها معهنّ على حد سواء. فريندز الأكثر تأثيراً وحضوراً بين عشاقه رغم تغير الأشباه