تمرُّ علينا ذكرى تأسيس المملكة العربية السعودية وتوحيدها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه-، ووطننا العربي والمملكة في مرحلةٍ تتطلَّب تمثُّل هذه الذكرى، واستلهام ما بها من دروسٍ وعِظاتٍ، إذ يحتاج كثير من دولنا العربية إلى تجاوز ما هي عليه من تمزُّقٍ وضَياع، والمملكة العربية السعودية في حاجة إلى إمعان النظر والتأمُّل في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، بكلِّ ما فيها من تحديات، استوجبت استنهاض الهمم، وامتلاك الإرادة، والثقة في أنَّ هذه البقعة التي اختصَّها الله سبحانه وتعالى لتكون مهبط الوحي، وحاضنة الحرمين الشريفين، تستطيع أن تكون على مستوى التشريف، والهبة الربَّانية، وأن تكون نموذجًا فريدًا في تحقيق التعايش، والصعود في سُلَّم التنمية والتحضُّر بخطا واثقة. وقناعتي الشخصية الراسخة، من خلال الاطلاع على تجربة الملك المؤسس، وقراءة صفحاتها، أنّ الملك عبدالعزيز –رحمه الله – هو أعظم شخصية في القرن العشرين بلا جدال، وأنّ ما كُتِبَ عنه وعن جسارته في خوض تجربةٍ على غير مثال لا يوفِّيه حقه، بالنظر إلى منطقة محفوفة بالمخاطر الذاتية النابعة من بيئتها التي أَلِفت الصراع واعتادَتِ الفوضى، وبالمخاطر الدولية المُحدقة؛ بسبب ما للجغرافيا من تأثيراتٍ، وللتاريخ من ثارات ودفعٍ بالمناكب، حتى إنها –أي المنطقة- كانت مسرحًا للحربين العالميتين اللتين شهدتهما الكرة الأرضية، وتأثرت بهما، كتأثر اللاعبين الرئيسين، الذين أشعلوا هاتين الحربين. إنَّ خوض الملك عبدالعزيز غمار التوحيد في تلك الظروف المتشابكة التي تستعصي على أهل الخبرة والتجربة، لم تجد ما تستحق من التحليل العميق، الذي، لا شك، سيكشف جوانب عَظَمَة ذلك الشاب الذي آمن بأنّه ومن معه يستطيعون تغيير واقعهم مهما كان عليه من فوضى عارمة، وجمع شمل أولئك الذين جعلوا الصراع والتنافس أسلوب حياة، والنَّيل من الآخَر مهما قلَّت عناصر الاختلاف معه مصدرًا للتفاخر، والاعتزاز. لم يكن لذلك الشاب القوَّة الضاربة عسكريّاً التي تُرغِمُ الآخرين على اتِّباعه، ولكن كانت قوَّتُه في قدرته على صياغة نهجٍ يخاطبُ جذورَ المشكلة، ويفكِّك عناصرها، ليعيد تشكيلها وفق رؤيةٍ تخاطب العقول، وتلامس شغاف القلوب، لاستنهاض الهمم، التي أنهكتها الصراعات والحروب، وأقعدها الاستسلام لواقعٍ مُزرٍ يفرض سلاحَ التربُّص ومبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان). كما أنّ النَّاظرَ إلى خريطة العالم في تلك المرحلة التي شهدت إرهاصات انهيار إمبراطوريات، وبروز قوى دوليةٍ جديدة، يتحيَّر ويتساءل: كيف لشابٍّ أن يتعامل مع هذا الوضع الدولي المعقَّد؟ وكيف له أن يتلمَّس طريقه نحو تحقيق مشروعه في هذا العالم المتلاطم الأمواج؟ وإذا تأمَّلنا تأثير نجاح الملك عبدالعزيز في توحيد المملكة، لوجدنا أنّه لا يتحدَّد في قيام هذه المملكة التي تدهش العالم اليوم برؤيتها الوثَّابة، ونهضتها الحضارية التي تجري في عالَمٍ بالغ التعقيد، وإنما نجد أنَّ هذا النجاح له أبعادُه العربية والإسلامية والإقليمية والدولية، لأَّن ما كان من فوضى عارمة في المساحة الشاسعة التي تشغلها المملكة، ما كان ليسمح بالاستقرار الذي يهيِّئ لقاصدي الحرمين الشريفين التمتُّع بالحج والعمرة والزيارة بأمانٍ واطمئنان، وما كان ليحقِّقَ للتجارة الدولية أن تشهد النمو والانسياب، بما يعود بالنفع على العالم بأسره، وما كان للإقليم أن يوجِّه طاقاته للبناء ومحاولة مواكبة خُطا التحديث والتطوّر المتسارعين اليوم. إنَّ تأسيس المملكة العربية السعودية بتأثيراته في الفضاءات المختلفة يجعله إنجازًا يستحقُّ صفةَ الإعجاز، بما يجعله عصيّاً على الإحاطة، وبما يدفعنا إلى القول باطمئنان: «إنَّ الملكَ عبدالعزيز – طيَّبَ الله ثراه – أعظمُ شخصيَّةٍ عرفها القرن العشرون».