ليس جديداً أن يتبادل الإنسان حواراً متخيلاً مع حيوان ما أليفاً كان أو مفترساً، بل إن الإنسان صنع حيوانه الخاص بالخيال ومنحه من الصفات ما يتمناه لنفسه من القوة والقدرات الخارقة التي يرهب بها الأعداء ويرضي من يتقرب إليهم كما أخبرتنا الأساطير والخرافات عن أنواع منها، والشعر العربي القديم حافل بالقصائد التي ورد ذكر الحيوانات فيها فقد أحبوها ووصفوها بدقة وجمال وشبهوا فيها وافتخروا بما يملكونه من صفات تشبهها، وقد امتدت هذه الصلة بالحيوان حتى اليوم رغم اختلافها الكبير عن السابق، فقد ترقق الإنسان باختلاف البيئات وصار يختار ما يناسبه ويناسب زمنه وحالته النفسية، وفي الغالب سنجد أن الشعر والشعراء تمسكوا بذكر الطيور الأليفة اللطيفة، فنال هديل الحمام وتغريد العصافير النصيب الأوفر في قصائد هذا الزمن، فعبروا عن أحزانهم وأفراحهم من خلالهم وتفكروا وتفلسفوا من تأملاتهم في أحوالهم. مساعد الرشيدي -رحمه الله- استوقفه عصفور في حالة خاصة فعرفنا عليه وقدمه لنا مع سهم بصوت أحلام. أما الرحابنة فقدموا لنا بصوت فيروز عصفوراً في حالة أخرى فتستمع للأغنية وكأنك تراه رشيقاً يقفز هنا وهناك ليحقق هدفه.. جايب لي سلام عصفور الجناين جايب لي سلام من عند الحناين نفض جناحاته عشباك الدار ومتل اللي بريشاته مخبي سرار سرار عصفور يملؤه النشاط والفضول أخذ دور مرسول الغرام، فهو يرغب أن يعين ذلك المحب العاتب وينقل عتبه إلى محبوبته ليحثها على التواصل معه بعد قطعه بأبسط الطرق.. شو قال لي شو قال لي عتبان المحبوب ما بدك اطلي بعتي له مكتوب ودي له شي ورقه عليها كتيبه زرقا وامرقي لك شي مرقه مطرح منو ساكن أي لطف هذا الذي يحمله هذا العصفور فتتخيله كالطفل الحائر أمام مشكلة ما فيعطيك ما لا تتوقعه من حلول واقتراحات بسيطة وبريئة ومقنعة! أحببت هذا العصفور الفضولي الذي حرص على تخفيف الحزن عن صاحبه ويريد أن يهدأ قلبه وتستكين روحه فيجتهد ويطرح فكرة أخرى.. كل ليلي عشيي قنديلك ضويه قوي الضو شويي وارجعي وطيه بيعرفها علامي وبيصلي تتنامي وتقومي بالسلامي ويبقى قلبك لاين ببساطة تصل الرسالة، فصاحبه لا يريد إلا أن يطمئن على محبوبته، فلتكن بسلام وقلب لين يرق لحاله. وفي جانب آخر يقف عصفور حزيناً على شباك ليواجه خلفه من امتلأ حزناً وضاق صدره بالحنين والأشواق وبما لا يجعله قادراً على انتشال ذلك العصفور الصغير من حزنه، فيسأله: حزين من الشتاء والا حزين من الظما يا طير دخيل الريشتين اللي تضفك حل عن عيني سؤال مباشر ألقاه حزين على آخر، وإجابة لم تصل، ولا قِبل للشاعر باحتمال حزن على حزنه، فراح يستعطفه أن يباعد عنه قبل أن تشتد رياح حزنه فتكون وبالاً عليه وعلى أجنحته الضعيفة: دخيل الما وملح الما وحزن الما قبل ما تطير تهيا للهبوب اللي تصافق في شراييني يرجوه بثلاث أن يبتعد عنه خوفاً من سطوة الحزن على روحه، فهو لا يملك أن يسري عن نفسه فكيف يسري عن عصفور لا يستطيع أن يفصح عما به، فلا بد أن يبعده لأنه يستحث الحزن على الامتداد في الوقت الذي يترقب فيه الشاعر أن تخفف من حزنه نجوم السماء التي اقترب ظهور لمعانها، وينتظر من هذا العصفور المنكسر أن يغادر مكانه خلف النافذة، فلعل نجمة المساء تنجح في التخفيف عنه. دخيل الغصن والظل الهزيل وهفهفات عصير دخيلك لا تشح بنجمتي والليل ممسيني يستعطفه أن يرحل بحزنه بعيداً مستخدماً أغلى ما يملكه عصفور غصن وظل وماء وهواء عليل ولكن لا فائدة.. ترفرف يا فقير الريش ضيقه والنهار قصير علامك كل ما ليل جناحك جيت ساريني أنا ماني بخير وجيت يمي وإنت ما إنت بخير وأنا يا طير فيّ من الهجاد اللي مكفيني اعتراف صريح وأخير من الشاعر للعصفور بأنه لن يفيده بشيء فرفرفة أجنحتك الضعيفة أمامي لن تجدي، فكيف أعينك، وأنا عاجز عن عون نفسي، ارحل فلا يغرنك ما تراه في ولي، فما أملكه لا يتجاوز جرحاً وسكيناً.. ترى لو شفت لي ظل ومهابه في عيون الغير ترى كل الزهاب اللي معي جرحي وسكيني عصفوران في حالين منحانا ما وجداه من طرب وخفة وحزن ومعاناة، هذا ما تفعله بنا الكلمات والألحان حين يبدع بها صناعها.