إذا كان جمهور المُثقفين يتوقّعون من المؤلّف أن يتقيّد بالروح العلمية في كتاباته، فهُم يتوقّعون كذلك من المُترجم ألا يكون أقلّ حرصاً على ذلك. فالترجمة عِلم وفنّ، وهي تحتاج إلى موهبة بلاغية، وقُدرة على التعبير واختيار الألفاظ المناسبة، وصبر وجلَد، ودُربة ومِران. وقد رأت الأُمم والشعوب منذ القِدم حاجتها المُلّحة في اتّصال بعضهم ببعض، وفي تبادل الثقافة كما تتبادل السِلع. وقد تبيّن للمُفكّرين في تلك الأُمم أن تبادل الثقافة تحول دونه حُصون منيعة بين بني الإنسان، وتلك الحصون هي التي نُسمّيها باللّغات. فأداة التفكير تختلف من أُمّة إلى أُخرى، وأولئك الذين حاولوا التطلّع إلى ما وراء تلك الحصون التي ندعوها باللّغات، نفرٌ قليل من الناس في كلّ أُمّة وفي كلّ عصر، وهم الذين قرّبوا بين الشعوب، ووصلوا الإنسان بأخيه الإنسان، رغبة في تبادل المنافع والمعارف، عسى أن يتكوّن من الناس جميعاً مُجتمَع إنساني يسوده التعاون والتفاهم. ولطالما تحدّث كبار الفلاسفة والكُتّاب والروائيون عن أهمية الترجمة؛ فلولا الترجمة لبقي الإنسان منعزلاً في حدود بلده، فهي ليست مسألة ترجمة للكلمات فقط، ولكنها تتعلّق بجعل ثقافة بأكملها مفهومة. فالفيلسوف والمُفكّر الأميركي جورج ستاينر يقول: «لولا الترجمة لكُنّا سنعيش في مناطق يُحاذيها الصمت». ومواطنه الشاعر والناقد الأميركي عزرا باوند يقول: «قد تكون حُقبة ازدهار الأدب، دائماً حُقبة ازدهار الترجمات». ويقول الروائي البرتغالي خوسيه ساراماجو، الحائز على جائزة نوبل: «يصنع الكُتّاب أدباً قوميّاً، بينما يصنع المُترجمون أدباً عالميّاً». ويقول الكاتب والروائي البريطاني سيريل كولوني: «تُعتبر الترجمة من لُغة إلى أُخرى أكثر الممارسات الفكرية حساسية، وتبدو كلّ المهارات الأُخرى، بدايةً من حلّ لغز الجسر إلى الكلمات المتقاطعة تافهة ومُبتذَلة مُقارنة بالترجمة. فأن تأخذ نصّاً باليونانية وتصيغه بالإنجليزية دون أن تفقد المعنى، فتلك مهارة رائعة». وأخيراً، يقول السياسي الفرنسي جان فرانسوا جولي عن أهميّة الترجمة، أنه «لا يُمكن فصل الترجمة عن مفهوم التقدّم، بل يعتقد البعض أنه يُمكن قياس المجتمع بناءً على تطوّر حركة الترجمة فيه». ولكن للترجمة مشكلات كانت موضع دراسة ومُناظرة وخلاف بين القُدماء، كما هي بين المُحدثين. ومنها أن المُترجم لا يُسمّى مُترجماً حقّاً إلا حين نفترض أنه يسيطر على اللّغتين قراءة وكتابة، كذلك يجدر بنا أن نفترض إخلاص المُترجم في عمله وحُسن نيّته، وأنه حين أخرج النصّ المُترجَم قد بذل الجهد وتحرّى الصواب، ولم يكن متأثّراً بمذهب خاصّ قد يصبغ ترجمته بصبغة خاصّة. أي أن للترجمة مشكلات وصعوبات حتى مع إتقان المُترجم للّغتين، وأمانته وإخلاصه في عمله. وعموماً يُمكن تصنيف الكُتب المترجَمة إلى نوعين: أولّهما الترجمات الأدبية؛ وتشمل القصص والروايات والشّعر، وثانيهما الترجمات الموضوعية؛ وتشمل كُتب التاريخ والرحلات والسّيَر والمُذكّرات والسياسة والعلوم. فدلالة الكلمات في مجال التفكير والنشاط العلمي تلتزم عادةً حدوداً لا تكاد تتعدّاها، لا سيّما حين تعرض تلك الكلمات لظواهر الطبيعة والأحوال الكونية في العالَم. ولذلك نلحظ أن ترجمة العلوم أيسر وأسهل، لأن دلالة الألفاظ فيها محدودة مضبوطة، دون تأثّر يُذكَر بشعور فرديّ أو بعاطفة شخصية. أما في ترجمة النصوص الأدبية، فالمشكلة أشدّ وأعسر، وذلك لأن الآداب تعتمد على التصوير والعاطفة، والتأثير والانفعال، إلى جانب ما يُمكن أن تشتمل عليه من أفكار، ولا يكون الأدب أدباً إلا بشحن الألفاظ بفيضٍ من الصّوَر والأخيِلة وظِلال المعاني. أو كما جاء في كتاب د. إبراهيم سلامة «تيّارات أدبية بين الشرق والغرب» حين قال: «إن لُغة كلّ أُمّة، وبخاصّة اللّغة الأدبية، تفيض بعواطف خاصّة قد لا تُدركها الألفاظ، ولكن يُدركها الأديب وحده. وكثيراً ما نقف أمام نصّ من النصوص وقفة المُتردّد الذي يتمنّى لو رأى الأديب فيسأله عمّا أراد بهذا النصّ». ومن المشكلات التي تواجه حركة الترجمة في بلادنا العربية؛ السُرعة: ذلك الداء الذي نخشى أنه تغلغل واستشرى بين الكُتّاب والناشرين، حتى يكاد يقضي على الكفاءة العلمية، فبعض دُور النشر تريد أن تقذف إلى الأسواق ترجمة أيّ كتاب ناجح جديد بأسرع وقت مُمكن، وأكبر همّها أن يتمّ إنجازه خلال وقت مُحدّد، دون أن تُلقي بالاً إلى أهميّة الجودة وضرورة الإتقان. والنتيجة الحتمية لذلك أن يفقد القارئ العربي -إن عاجلاً أو آجلاً- ثقته بالكُتب المترجَمة، ويلجأ إلى المصادر الأصلية إذا كان يُجيد اللّغات الأجنبية. وفٌقدان هذه الثقة لا يقتصر ضرره على دَور الترجمة فحسب، ولكنه يعمل على زعزعة إيمان المرء بكفاءة أُمّته على الإتيان بعملٍ مُنظّم يُعتمَد عليه، ويوثَق به، ويُركَن إليه. وخِتاماً، فإنه لحُسن الحظّ، أن سماء حركة الترجمة العربية ليست بتلك الكآبة بشكل عامّ؛ فقد لمع ويلمع فيها نجوم نيّرة تُضيء الطريق، وتؤدّي مُهمّتها على أكمل وجه. ولا يُمكن تعداد أسماء كلّ هؤلاء الأفذاذ من المُترجمين، الذين يعرفهم المُهتمّون من الأدباء والقُرّاء. ولكن يبرز اسم الأستاذ عادل زعيتر (1895 - 1957) الكاتب المُفكّر الذي يُعتبَر مثال المُترجم الحقّ، الذي انقطع نحو رُبع قرن من الزمن لنقل مجموعة من شوامخ الكُتب العالمية إلى لٌغة قومه، وكان أثناء نقله لتلك الكُتب مُتحرّزاً مُشدّداً، يُعنى كثيراً بالمُصطلحات التاريخية والاجتماعية، ويحرص على إيراد النصوص الأصلية للمُقتبَسات، وقد يقضي أيّاماً في البحث عن نصٍّ أصليّ، وتحقيق اسمٍ أو حادثةٍ، ولا يفتأ يُكاتب الثقات والمُختصّين في موضوعاتهم، حتى لقد رُوي أنه أرجأ طبع أحد الكُتب بضعة أشهُر في سبيل تحقيق نصّ واحد، والاطمئنان إلى صحّته. وكذلك الأستاذ سامي الدروبي (1921 - 1976) الأديب الناقد الذي اشتُهر بترجمته لجميع أعمال الروائي الروسي فيودور دستوفيسكي، والتي تُعدّ الترجمات الأشهر بالنسبة له، كما أن له ترجمات لمؤلّفين روس آخرين؛ كتولستوي وبوشكين وليرمونتوف وغيرهم.. وكان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هو صاحب الوصف الأهمّ للأستاذ الدروبي، حين كتب: «إن سامي الدروبي مؤسّسة كاملة»! جوزيه ساراماجو عزرا باوند