شخصيتنا هذه من الذين أمد الله في أعمارهم وحسنت أعمالهم، وفي الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فكم من أناس مد الله في أعمارهم وعمروا لكن كانت حياتهم مسخّرة في غير طاعة الله، بل أصبحوا خدماً للدنيا ولشهوات النفس، ورحلوا عن هذه الفانية ولم يقدموا لأنفسهم ولا لمجتمعهم شيئاً مذكوراً من النفع العام، فهم مروا في هذه الحياة كطيف الخيال ولم يلفتوا الانتباه، والعبرة ليست بطول الأعمار والسنوات التي عاشها الإنسان، إنما بما قدمه لوطنه، فالأعمال الجليلة العظيمة هي العمر الثاني للإنسان وتخلد ذكراه، وكما قال العلامة ابن دريد: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى وألّف العلامة أحمد المقريزي المصري رسالة قيمة ونفيسة وبديعة بعنوان (حرص النفوس الفاضلة على بقاء الذكر)، ولعله لم يسبق إليها في تأليف هذه الرسالة التي أبدع فيها المقريزي ونقل -رحمه الله- عن الإمام مالك إمام دار الهجرة أنه قال: «لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحاً وأن يرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى» -انتهى كلامه-. وشخصيتنا هذه أحد أعلام القضاء، ومن رجال المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، ومن الذين نالوا قسطاً كبيراً من العلم والمعرفة، وكذلك وهبه الله الرزانة والحكمة والعقل الراجح والرأي السديد، واتصف بالشجاعة والجرأة والإقدام، وفي هذه السطور نقدم للقارئ الكريم شيئاً من سيرة الشيخ والقاضي محمد بن صقر بن عايد المدرع -رحمه الله-. ولد محمد المدرع عام 1317ه، وتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم على معلمي الكتاتيب الموجودة آنذاك، وقد تعلم على يد الشيخ عبداللطيف بن حمد العتيق كما أخبرني الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، وكان له ميول للعلم والقراءة، وليس هناك مدارس نظامية حتى يطلب العلم فيها، بل كانت حلقات العلم في المساجد، لهذا رحل إلى مدينة الرياض وهو شاب يافع. طلب العلم وأورد الباحث عبدالله بن محمد الزهراني في كتابه (تاريخ القضاء والقضاة في العهد السعودي) المشايخ الذين أخذ عنهم الشيخ محمد بن صقر المدرع، واستقى معلوماته عنهم ونهل وارتوى من بعض عملهم، وهم المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي كانت حلقته من أشهر الحلقات العلمية في المنطقة الوسطى -نجد-، وكانت دروسه في المسجد وفي منزله، وشخصيتنا ممن لازم هذه الدروس في العقيدة والتوحيد والفقه والحديث وسماع بعض المطولات في التفسير والحديث، ويوضح المؤرخ إسماعيل بن سعد آل عتيق في كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ) عن برنامج المفتي في تدريس التلاميذ، والشيخ العتيق شاهد عيان لهذه الدروس، ومن تلاميذ المفتي منذ عام 1367ه، وهذا البرنامج مشى عليه آل الشيخ منذ أن بدأ التدريس نحو عام 1339ه، ولا شك أن الشيخ محمد بن صقر المدرع حضر هذه الدروس وأفاد منها، وكان البرنامج اليومي كالتالي كما يوضحه العتيق قائلاً: "من عام 1367ه كان لي بعض الإدراك لما كنت أشاهد من حلق التعليم في بيت المفتي وفي مسجده وفي بيت المطالعة، فلقد كان آل الشيخ يجلس بعد صلاة الفجر مباشرة، لحفاظ المتون في الفقه والحديث والنحو، والفقه "زاد المستنقع"، والحديث "بلوغ المرام"، والنحو "ألفية بن مالك"، ثم بعد قراءة جزء من المتن من حفظ الطلاب يبدأ "بشرح" جزء من المتن من حفظ الطلاب، ثم يقرر تقريراً مرتلاً تحسب كلماته عداً، حتى إن البعض من الطلبة يكتب شرحه وتقاريره واختياراته وترجيحاته ثم بعد الشرح الشفوي يعاد قراءة المتن مع شرحه، وإذا مر ما يرى الشيخ إعادة تقريره لتثبيته في الأذهان عاد وقرر، وإلاّ أخذ القارئ في قراءة الشروح سرداً، وقد يسأل بعض الطلبة فيجيب المفتي على السؤال". درس البيت ويواصل المؤرخ إسماعيل بن سعد آل عتيق سرد برنامج المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ اليومي في الدروس قائلاً: "وبعد الإشراق وارتفاع الشمس ينهض الشيخ من مجلسه ويتجه إلى بيته فينصرف الطلاب بانصرافه للاستراحة والإفطار لمدة ساعة تقريباً -فسحة-، ثم يستأنف الجلسة في بيته وقد فتح الباب للناس عامة الطلاب والمستمعون، فيجلس للطلاب عموماً فيجلس الطلاب صفوفاً في الديوانية حتى لا تكاد تجد موطئ قدم في هذه الجلسة، وتقرأ عليه المختصرات في التوحيد والأصول الثلاثة وشروط الصلاة وآداب المشي إلى الصلاة وكتاب التوحيد وربما قرئ عليه المصطلح ك"البيقونية ونخبة الفكر في مصطلح الأثر" وطريقة تدريسه مثل ما سبق الاستماع إلى الطلاب حفاظ المتون مجزءاً، ثم يتم شرح الدروس شرحاً يفهم فيه صغار الطلبة، ويذكر الشيخ إسماعيل العتيق مثالاً للتوضيح قائلاً: "سمعته ذات مرة يقرر مراتب الدين، فقال ما معناه: الدين هكذا على ثلاث مراتب مر فيه الإسلام وهي الدائرة الواسعة التي يدخل فيها من إيمان بالأركان الخمسة ظاهرياً، ثم دائرة الإيمان أخص من دائرة الإسلام، ثم دائرة الإحسان أخص بما قبلها، وهكذا كان يحلق بيديه على الأرض ثلاث حلقات، وبعد انصراف صغار الطلبة من قراءة المختصرات يأتي دور المطولات" -انتهى كلامه-. أجواء علمية ويؤكد هذا البرنامج الدراسي للمفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والذي استفاد منه الجمهرة من الطلبة والتلاميذ الذين رحلوا من بلدانهم في نجد ومنهم شخصيتنا بقصد طلب العلم، الذي رحل من بلاده لأجل طلب العلم والتزود منه، رحل مع ما يلاقيه من مشقة السفر والتعب، والسفر كما قيل قديماً: إنه قطعة من العذاب، أي قبل الوسائل الحديثة، فقد سرد الشيخ الملقب بالبحر عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ في كتابه (مشاهير علماء نجد وغيرهم) وهو معاصر لهذه الحلقات، وكان من المستمعين لهذه الدروس كما في ترجمته بآخر كتابه المذكور آنفاً، يقول آل الشيخ -رحمه الله-: "المفتي إذا صلى الفجر جلس في المسجد يقرأ عليه صغار الطلبة في (الآجرومية في النحو) وبعدها يقرأ عليه متوسطو الطلبة في القطر لابن هشام في النحو، وبعدها يقرأ عليه كبار الطلبة في ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل، فإذا انتهوا من قراءة النحو قرؤوا عليه في الفقه (زاد المستقنع) غيباً، فإذا قرأ آخرهم وسكت، أخذ الشيخ في إعادة ما قرؤوه من المتن وشرع يتكلم على العبارات ويوضح معاني الكلمات، فإذا انتهى شرح أحد الطلاب في قراءة شرح الزاد المسمى (الروض المربع شرح زاد المستنقع) قراءة وترتيل، يقف عند كل فقرة وجملة والمفتي يعلق على عبارات الشارح وجمله بكلام يوضح المعنى ويزيل الإشكال ويصور المسائل تصويراً ملموساً يقرب المعاني إلى أذهان الطلبة ويقرر قواعدها في نفوسهم؛ لأنه -رحمه الله- أخذ بناصية علم الفقه ومتبحر فيه تبحراً عظيماً، فإذا انتهى من تقريره على الفقه شرعوا في القراءة عليه في بلوغ المرام، فإذا أشارت الساعة إلى الواحدة -التوقيت العربي- انصرف إلى داره، فإذا كانت الساعة الثالثة جاءه كبار الطلبة وخواصهم قرؤوا عليه إلى الساعة الخامسة نهاراً ثم انصرفوا، وصوّر آل الشيخ هذه الحلقات والدروس على مدار الساعة من بعد صلاة الفجر حتى الانتهاء من صلاة العشاء، وقد عاش هذه الأجواء العلمية شخصيتنا الشيخ القاضي الداعية محمد بن صقر المدرع -رحمه الله-، وكونته علمياً، وأصبح من طلبة العلم على مراحل الحلقات من صغار الطلبة ثم من المتوسط وبعدها من كبار الطلبة. تحرٍ وضبط ودرس محمد بن صقر المدرع على المحدث الفقيه سعد بن حمد بن عتيق في الرياض، وكان تدريس الشيخ ابن عتيق في جامع الإمام تركي بن عبدالله، ولعل دراسة محمد بن صقر المدرع كانت في الأربعينات الهجري؛ لأن الشيخ ابن عتيق توفي سنة 1349ه، ودرس عليه الفقه؛ لأن الشيخ ابن عتيق كان يدرس تلاميذه (زاد المستقنع) كما أخبر بذلك تلميذه الشيخ المؤرخ المشهور سليمان بن حمدان في كتابه (تراجم لمتأخري الحنابلة) قائلاً: "كانت له حلقات للتدريس في جامع الرياض إحداهما بعد طلوع الشمس والأخرى بعد صلاة الظهر، وكان شديد التحري والضبط في درسه بضبط الألفاظ والاحتراز من اللحن، ثم يقول واصفاً استعداد الشيخ ابن عتيق لدرسه الفقهي قائلاً: لا يقرأ عليه في كتاب إلاّ إذا كان قد راجع ما له من شروح وحواشي واستوفى مطالعة" -انتهى كلامه-، وهكذا كان الشيخ سعد بن عتيق أحد العلماء الكبار الذين درس عليهم الشيخ محمد بن صقر المدرع في مدينة الرياض. ومن العلماء الذين أخذ عنهم محمد بن صقر المدرع الشيخ الشهير رئيس القضاة بالمنطقة الغربية عبدالله بن حسن آل الشيخ، تعلم منه واستفاد منه في التوحيد والعقيدة والفقه، والشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ هو رئيس القضاة والمشرف على شؤون الحرم الملكي والمدني من تعيين المدرسين فيه والمسؤول عن الوعاظ والمرشدين في المنطقة وتعيين الأئمة في المساجد، ومن المؤكد أن محمد المدرع قد درس عليه في الرياض وأفاد منه، يقول الباحث عبدالله بن محمد الزهراني في كتابه القيم (تاريخ القضاء والقضاة في العهد السعودي): "إن محمد بن صقر المدرع كان ينوب عن الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ حال غيابه بالإمامة بالملك عبدالعزيز -رحمه الله- فهذا من ثقته بتلميذه وهذا في الرياض". كفاح ونضال ومما يتصف به محمد بن صقر المدرع الشجاعة، فلقد أصبح من رجال الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، حيث شارك في عدة معارك يذكر منها الباحث عبدالله بن محمد الزهراني في كتابة (تاريخ القضاة والقضاة في العهد السعودي) في ترجمته قائلاً: "شارك في وقعة تربة والعيينة والسبلة، ويذكر المستشار إبراهيم بن عبدالعزيز المدرع أن جدّه محمد المدرع شارك في ضم جازان، فهو من الشخصيات الوطنية ذات الفداء والكفاح والوفاء والنضال الذين بذلوا أنفسهم مع الملك عبدالعزيز حتى أصبح هذا الكيان المملكة العربية السعودية تحت راية وقيادة واحدة، وذكر الباحث عبدالله الزهراني في كتابه المذكور أن الملك عبدالعزيز كلف محمد المدرع بعدة مهمات". داعية خير ومن المهام التي باشرها محمد بن صقر المدرع -رحمه الله- الوعظ والإرشاد والتوجيه، عينه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- معلماً ومرشداً دينياً وإماماً في عدة قرى بالمنطقة الغربية وفي جنوب وشرق المملكة، وبما أنه طالب علم فقد سخر علمه في توجيه العامة توجيهاً دينياً مركزاً على العقيدة والتوحيد والتحذير من البدع، فكان داعية خير وإصلاح، فهو يعظ بحكمة ورفق، وإذا ما رأى مخالفه شرعية في البلدان التي كلف بالدعوة فيها فكان الرفق واللين ملازمان له، لهذا كانت نصيحته مقبولة، وكانت قاعدته قول الله تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وهذه هي قاعدة كل داعية وناشر للخير والمعرفة. من روّاد القضاة وتعيّن الشيخ محمد بن صقر المدرع -رحمه الله- في القضاء 1373ه في عهد الملك سعود -رحمه الله-، وكان القضاء قد بدأ تحديثه إدارياً، فلقد كانت أولى مناصبه قاضياً في بلدة بلقرن، وهو الذي أسس محكمتها وفتحها، فكان أول القضاة في بناية المحكمة في بلقرن، ورتب أمورها الإدارية، ثم في عام 1378ه نقل إلى الباحة، وقام بفتح محكمة الباحة، فكان من رواد القضاء الذين باشروا التحديث والتطوير في عهد الملك سعود وفي عهد الملك فيصل -رحمهما الله- فكان ينظم الأمور الإدارية في المحكمة عند افتتاحها، ووثقت فيه القيادة واعتمدت على كفاءته في التنظيم الإداري -آنذاك- للمحاكم، وحينما رتب محكمة الباحة إدارياً وقضائياً نقلته إلى القطيف ليفتتح محكمتها، كانت له تجربه ناجحة في محكمة بلقرن ومحكمة الباحة فقام بالإجراءات النظامية في التنظيم الإداري للمحاكم الشرعية، وكان انتقاله إلى محكمة القطيف 1384ه واستمر رئيساً لمحكمتها حتى منتصف عام 1386ه. وفي منتصف عام 1386ه نقل محمد بن صقر المدرع إلى القيصومة، وافتتح محكمتها، وكانت أول محكمة هناك، ومنذ ذلك التاريخ وهو رئيس محكمة القيصومة وتقاعد عام 1400ه بطلب منه كما ذكر الباحث عبدالله الزهراني في كتاب (القضاء والقضاة في العهد السعودي) أي أنه استمر في القيصومة أربعة عشر سنة، وهي أطول مدة قضاها متنقلاً في مدن وقرى المملكة. مدرسة حراء وفي عام 1369ه أو 1368ه تم افتتاح أول مدرس نظامية في بلحارث -جنوبالطائف-، وكان شرف افتتاحها على يد محمد بن صقر المدرع، وهي التي يطلق عليها مدرسة حراء. وبعد حياة زاخرة بالأعمال الرسمية والوطنية توفي الداعية محمد بن صقر بن عايد المدرع بتاريخ السابع عشر من رمضان عام 1410ه بالطائف، ودفن فيها، غفر الله له ورحمه. وفي الختام أشكر الأستاذ الإعلامي منصور بن راشد القحطاني على تزويدي بالمعلومات عن شخصيتنا، وحرصه واهتمامه ومتابعته والحدث على نشر سيرة هذا العلم الذي هو أحد أعلام الوطن. محمد بن صقر المدرع -رحمه الله- أخذ محمد المدرع العلم على يد الشيخ محمد بن إبراهيم في مسجده -جامع دخنة- محمد المدرع أسس محكمة بلقرن وكان أول القضاة فيها مدرسة حراء أول مدرسة نظامية في بلحارث افتتحت على يد محمد المدرع