وسّعت المملكة هذا الشهر علاقاتها الخارجية مع دول العالم في الوقت الذي يشهد فيه العالم أحداثًا متسارعة تختلط فيها أصوات المدافع في أوكرانيا والسودان مع ضجيج الطائرات والسفن الحربية في بحر الصينالجنوبي والإطلاق المتكرر لصواريخ بيونغ يانغ الباليستية. يحدث هذا وسط تحليلات تشير إلى أن العالم مقدم على تغيير جذري سيقلب المعادلات السياسية والاقتصادية القائمة مع ظهور لاعبين جدد، وفي مقدمتهم المملكة، من شأنهم تحديد اتجاه بوصلة هذا التغيير. وجاءت زيارة رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا لتؤكد على الدور المركزي للمملكة في هذا التغيير المنشود، حيث اليابان أحد أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع التي تُعدُّ أقوى الاقتصادات في العالم، وهي تشترك مع المملكة في عضوية مجموعة العشرين التي تتحكم بإدارة الاقتصاد العالمي. واحتلت اليابان المركز الثالث بعد الهندوالصين كأكبر شريك تجاري للمملكة بحسب معالي وزير الاستثمار خالد الفالح. وتكتسب هذه الشراكة أهمية خاصة لأنها تسهم في تحقيق رؤية المملكة 2030 لتنويع مصادر الدخل وعدم الاكتفاء على النفط فقط، وتأتي هذه الشراكة ضمن المنظور الاستراتيجي لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي نجح في التصحيح المالي والقضاء على بؤر الفساد وتوفير بيئة استثمارية جاذبة وآمنة وتوسيع الاستثمارات الخارجية من خلال صندوق الاستثمارات العامة الذي يُصنّف بأنه من أكبر الصناديق السيادية في العالم وتُقدّر أصوله بنحو 727 مليار دولار. وتؤكد هذه الزيارة نجاح مساعي سموه لجذب الاستثمارات الخارجية للمملكة وتوطين الصناعات والتكنولوجيا وخاصة من بلد مثل اليابان التي استطاعت النهوض من ركام الاستسلام في الحرب العالمية الثانية وبناء واحد من أكثر الاقتصادات المتقدمة في العالم. وبتوقيع 26 اتفاقية ووجود أكثر من 100 شركة يابانية عاملة في المملكة، سيكون هذا محفزًا لمزيد من الشركات العالمية للاستثمار في المشاريع السعودية في مجالات التعدين والطاقة النظيفة والتكنولوجيا وصناعة السيارات الكهربائية. أما الإنجاز الثاني الذي حققته الدبلوماسية السعودي فكان انضمام المملكة إلى معاهدة الصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا وكان من أهم الأحداث التي شهدها الاجتماع السادس والخمسون لاجتماع وزراء خارجية دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، الذي عقد في العاصمة الإندونيسية جاكرتا الأسبوع الماضي. وقد تركزت الأضواء على وزير خارجيتنا الأمير فيصل بن فرحان وهو يوقع اتفاقية الانضمام إلى المعاهدة بحضور وزراء خارجية دول الرابطة وبذلك تصبح المملكة العضو 51 في هذه المعاهدة التي تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار والتعايش السلمي والتعاون الودي بين الدول. ويعكس انضمام المملكة إلى هذه المعاهدة الأهمية المتزايدة التي توليها الرابطة للشركاء الخارجيين المؤثرين كما يعكس في الوقت ذاته اهتمام قيادة المملكة لتوسيع فضاءات التعاون مع التكتلات الإقليمية التي تتمتع باستقلالية قراراتها بعيدًا عن الضغوطات والمؤثرات الخارجية. وهذه الحقيقة أكدت عليها وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مارسودي التي قالت إن انضمام المملكة العربية السعودية إلى معاهدة الصداقة والتعاون في شرق آسيا «يعكس التزام السعودية القوي» بقيم ومبادئ «الآسيان» لإرساء قواعد الاستقرار والأمن في المنطقة، « ولهذا فإن الرابطة ترحب بالمملكة العربية السعودية في عائلة الآسيان». هذا الانضمام لهذه الكتلة الاقتصادية والسياسية في جنوب شرق آسيا، يهدف إلى تنويع العلاقات مع دول العالم وعدم الارتهان إلى العلاقات المتقلبة مع الحلفاء التقليديين وهي سياسة تعبّر عن بعد أفق خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، ورؤية سمو ولي العهد الاستشرافية، وحرصهما على مد جسور التواصل مع دول العالم الصديقة، في وقت يشهد فيه العالم حروبًا واحتكاكات عسكرية لفرض نظام كوني متعدد القطبية ونظام اقتصادي أكثر عدالة بعيدًا عن الهيمنة وسياسات الاستقواء والاحتكار والتحكم بحركة الاستثمار وأسواق الطاقة التي تنتهجها معظم الدول الغربية. وبحسب بيان وزارة خارجيتنا، فإن انضمام المملكة لمعاهدة الصداقة والتعاون يأتي تأكيداً على الروابط الوثيقة مع «الآسيان» في مجالات عديدة، واستكمالاً لدور المملكة الريادي دولياً في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ونهجها القائم على تعزيز الحوار وتكثيف التنسيق المشترك، وتوطيد العمل المتعدد الأطراف مع الدول الشقيقة والصديقة نحو المزيد من الاستقرار والازدهار والتقدم لكافة الدول والشعوب. وقد جاء الانضمام لهذه المعاهدة ضمن سياق رؤية سمو ولي العهد في التحول وضمن رؤية المملكة 2030 اللتين تتفقان في مضمونهما مع مبادئ «الآسيان» الخاصة بحل النزاعات بالطرق السلمية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام الاستقلال والسلامة الإقليمية، وعدم الاستنجاد بالقوى الخارجية للتدخل في الصراعات، وهذا ما يتجلى في سياسات المملكة في السعي إلى تصفير المشكلات في منطقة الشرق الأوسط وهي السياسات التي فاجأت أوساط صنع القرار في الدول الغربية التي كانت تراهن على فشل ثورة التغيير التي يقودها سموه الذي أثبت فشل هذه الرهانات من خلال النقلة الجذرية في التغيير على المستوى المحلي وإعادة العلاقات مع إيران برعاية الصين وتهدئة الأوضاع في اليمن وإعادة سورية إلى الجامعة العربية وعدم الاصطفاف في النزاعات الجيو-سياسية والقرارات الرامية للحفاظ على الاستقرار في أسواق الطاقة من خلال قيادة منظمة أوبك بْلَس. وضمن سياسة تنويع سلة العلاقات بين الدول، انضمت المملكة لمعاهدة شنغهاي ومنظمة بريكس. أما التعاون مع رابطة «الآسيان» فيكتسب أهمية خاصة وذلك لأن دول الرابطة العشر تمثل ثالت أكبر اقتصاد في آسيا وخامس أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدةوالصينواليابان وألمانيا. أما اقتصاد المملكة فتجاوز تريليون دولار ما يمثل ثلث الناتج الاقتصادي الإجمالي للدول الأعضاء في رابطة «الآسيان»، وهذا ما يجعل اقتصاد الطرفين عاملاً حاسمًا في ضبط حركة الاقتصاد العالمي. ولهذا، فإن رابطة «الآسيان» تولي أهمية كبيرة للتعاون مع المملكة، وهذا ما أكدت عليه وزيرة الخارجية الأندونيسية التي قالت إنها تتطلع إلى القمة الأولى بين «الآسيان» ومجلس التعاون الخليجي التي ستعقد في مدينة الرياض في أكتوبر المقبل. كما أكد على ذلك البيان الختامي لمؤتمر «الآسيان» الوزاري الذي قال إن قمة الرياض المقبلة «سوف تؤدي إلى زيادة تعزيز العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي، ونتطلع إلى اعتماد إطار التعاون بين الجانبين للفترة من 2024-2028». إلى أين يأخذنا كل هذا؟ من ينظر إلى حال العالم اليوم سيجده «على كف عفريت» بفعل الساسيات الغربية، فتاريخ هذه الدول مليء بالصراعات والحروب فيما بينها أولاً ثم نشرتها إلى ما أطلقوا عليها «دول العالم الثالث» فقسمتها واستعمرتها ونهبت خيراتها وأفقرتها بدعوى «رسالة الرجل الأبيض الحضارية». وقد اتخذت هذه الروح الفوقية والاستعلائية الاستعمارية أنماطًا شتى منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر حتى الآن، وطوال هذه القرون، لم يتوقف نهم الحكومات الغربية وجشع شركاتها الاحتكارية ومارست سياسات إبقاء الدول الفقيرة دودًا استهلاكية لمنتوجاتها ورفضت نقل التكنولوجيا والمصانع إليها فيما عُرف بسياسة «الشمال والجنوب» وما زالت هذه السياسات مستمرة إلى الآن. ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، يدور الحديث عن عالم متعدد القطبية بدلاً من «الشرطي الغربي» الوحيد وعن نظام مالي جديد وهذا التوجه يزداد يومًا بعد يوم. مع انطلاق سياسة التغيير، اطلقت قيادة المملكة مشروعها الخاص بتعزيز السلام في العالم ودعم جهود السلام والاستقرار. ولهذا سعت إلى مد جسور الصداقة والتعاون مع الدول التي تحترم خصوصية المملكة وسيادتها وهويتها ومصالحها الوطنية، ونحن نرى هذا المعسكر يكبر يومًا بعد يوم. كما أن سياسة تنويع مصادر الدخل الوطني اقتضت الاستثمار في الخارج وفي الداخل أيضًا، لكن سياسات الدول الغربية، وبخاصة المتعلقة منها بقضايا الطاقة والحرب في أوكرانيا والتوترات الحالية في بحر الصينالجنوبي ونُذر الصدام المحتمل بين الصين من جهة والولاياتالمتحدة وحلفاؤها في جنوب شرق آسيا، لا تشجع على خلق بيئة آمنة للاستثمار، ولهذا توفر المملكة هذه البيئة الآمنة. وهذا أحد الدوافع وراء زيارة رئيس وزراء اليابان الذي قال على الرغم من التحالف مع الولاياتالمتحدة إن اليابان ستشارك في الدفاع عن تايوان في حال شنت الصين حربًا عليها لكن الجيش الياباني لن يشارك في هذه الحرب. وهذا أيضًا الدافع لقمة «الآسيان» ومجلس التعاون الخليجي التي ستعقد في الرياض في أواخر العام الجاري. والغريب في كل هذا أن بعض الدول الغربية لا تريد أن تقرأ وترفض النزول عن الشجرة.