إن إقدام أحد المتطرفين بحرق نسخة من المصحف الشريف في ستوكهولم يُعبر بجلاء عن أزمة فكرية تعيشها أوروبا بسبب تصاعد تأثير الطروحات الأيديولوجية اليمينية واليسارية الاستعلائية، ويُعبر بوضوح عن أزمة أخلاقية عميقة تسببت بها النخب السياسية والدينية والثقافية.. الحضارة، الازدهار، التطور، التمدُن، التقدم، سمات وصفات بنَّاءة وإيجابية تسمو بحالة وكرامة الإنسان، وترتقي بمستوى المجتمعات لتتميز بذلك عن تلك المجتمعات البدائية التي يعمها الجهل والتخلف والتراجع والانحطاط والتقهقر. وبهذا فإن الحضارة –التي تسمو بمكانة الإنسان والمجتمع– ستكون انعكاساً حقيقياً للمعتقدات والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والقوانين والعلوم والفنون والسلوكيات والممارسات والأخلاقيات التي قامت عليها ودعت لها ورسختها في عقول وقلوب الأجيال على مدى عشرات القرون المتعاقبة لتعبر عنها شعوب الحاضر بكل سمو أخلاقي وكرامة إنسانية وتمدن بشري. فإذا كانت الحضارة بهذا العمق من المعاني السامية والجليلة والنبيلة، فإننا سنجد شعوب تلك الحضارة الإنسانية تدعو حقيقةً للمحبة والمودة والسلام والألفة والصداقة والتعاون لتنعم باقي الشعوب والمجتمعات بالأمن والاستقرار وتحقق التنمية والتطور وتواصل البناء. فإذا عممنا هذا المعيار على جميع الحضارات الإنسانية القائمة –بمختلف مسمياتها وتاريخها ومرجعيتها– انطلاقاً من تفاخر كل شعب ومنطقة وإقليم بحضارته وادعائه بعمقها التاريخي ورسوخ قيمها في مجتمعها، فإننا سنجد المجتمع البشري بعمومه يؤمن حقيقةً بالمحبة والمودة والسلام والألفة والصداقة والتعاون لتنعم بذلك جميع الأمم والشعوب والمجتمعات بالأمن والاستقرار الدائم وتحقق التنمية والتطور والازدهار والرفاه. نعم، إن الحضارة الحقيقية ذات القيم والمبادئ والمعتقدات والتقاليد والأخلاقيات السامية والنبيلة والجليلة ستكون اللبنة الأولى من لبنات المحبة والمودة والألفة والصداقة والسلام بين الشعوب، وفي المقابل ستكون سداً منيعاً ومحارباً صلباً في مواجهة كل من يحرض على الكراهية والعنصرية والاقصاء، ويدعو للبغضاء والحقد والخصومة والضغينة والفتنة والعداوة بين الأمم والشعوب والمجتمعات والحضارات. نعم، إن الحضارة ذات القيم والتقاليد والأخلاقيات السامية ترسخ في أبنائها قيماً وأخلاقيات سامية حتى أنها تنعكس على أقوالهم وأفعالهم وسلوكياتهم وممارساتهم تجاه جميع البشر أياً كانت حضارتهم وعرقهم ولونهم ودينهم ولغتهم أو مكان إقامتهم؛ بينما الحضارة القائمة على تقاليد وقيم أحادية التوجه الديني والعرقي واللغوي وتؤمن بتفوقها على الآخر، فإنها ترسخ في أبنائها قيماً وأخلاقيات وضيعة وعنصرية حتى أنها تنعكس على أقوالهم وأفعالهم وسلوكياتهم وممارساتهم تجاه جميع البشر المختلفين عنهم حضارياً ودينياً وعرقياً ولغوياً وإقليمياً ومناطقياً. فإذا كانت هذه المنطلقات الأصيلة أساساً يُبنى عليه للنظر لمدى تأثر الشعوب بالحضارة التي ينتمون إليها، فكيف يمكننا فهم حادثة حرق نسخة من المصحف الشريف التي جرت أمام مسجد ستوكهولم المركزي في السويد أول أيام العيد الأكبر عند المسلمين –عيد الأضحى المُبارك– للعام 1444ه / 2023م؟ قد يرى البعض أن طرح هذا التساؤل مع الإشارة إلى الحضارة فيه نوع من التعميم على حضارة محددة وقعت على أرضها تلك الحادثة الدنيئة تجاه الكتاب المقدس عند المسلمين، وقد يرى البعض أن طرح هذا التساؤل فيه نوع من التعميم لعمل فردي على باقي شعوب ذلك المجتمع أو تلك الحضارة، وقد يرى البعض أن طرح هذا التساؤل فيه دعوة للصدام أو للصراع بين الحضارات، تلك الحضارة الغربية التي وقعت على أرضها الحادثة الدنيئة تجاه القرآن الكريم مع الحضارة الإسلامية، وعلى الرغم من مشروعية هذه الطروحات جميعها إلا أن الداعي الرئيس من طرح هذا التساؤل يتعلق بثلاثة أسباب رئيسة والتي تتمثل في: أولاً: إن حادثة حرق نسخة من المصحف الشريف أمام مسجد ستوكهولم المركزي في السويد تمت بموافقة رسمية من الجهات المعنية بمملكة السويد وبحماية رسمية من رجال الأمن والشرطة، مما يخرجها من العمل الفردي والأحادي لتوصف بأنها تصرف أو عمل جماعي. وثانياً: إن هذه الحادثة العنصرية وقعت بعد فترة قصيرة جداً من التصريح العنصري لوزير الداخلية في الجمهورية الفرنسية، بحسب موقع france24 في 20 مايو 2023م، عندما اعتبر "أن الإرهاب الإسلامي السُني هو أبرز تهديد لبلاده وأوروبا". وثالثاً: إن هذه الحادثة العُنصرية تعد امتداداً للسلوكيات العنصرية تجاه المقدسات والرموز الإسلامية التي تصاعدت مُنذُ العام 2005م و2006م، وذلك بنشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عدة صحف أوروبية ومنها صحف دنماركية ونرويجية وألمانية وفرنسية. فإذا وضعنا هذه العوامل مع بعضها، فإننا نجد أن طرح هذا التساؤل مشروع ومنطقي، بل ومطلوب، انطلاقاً من أن هذه السلوكيات والممارسات والتصريحات عُنصرية في أساسها وتدعو صراحةً للتمييز على أساس الدين والإقليم خاصة تجاه الإسلام والمسلمين، وتُحرض بشكل صريح وعلني على كراهية وبُغض اتباع الدين والحضارة الإسلامية، وتُبرر بشكل مُباشر للعنف والتطرف والإرهاب إن حدث تجاه أتباع الدين الإسلامي والمُقدسات والرموز الإسلامية. نعم، ومع إيماننا بأن أساس الحضارة الغربية –بقيمها المسيحية الحقيقية– يدعو للسلام والمحبة والتعاون بين الشعوب والحضارات، إلا أن تلك الأسس والأصول لم تستطع الصمود والمقاومة في وجه الصعود المُتسارع للأيديولوجيات والأفكار والطروحات المُتطرفة التي عادت للانتشار بسلبياتها المتعددة في بعض المُجتمعات الأوروبية. نعم، إن الصعود المُتسارع للتيارات والأحزاب اليمينية واليسارية –ذات الأيديولوجيات والأفكار المُتطرفة والعُنصرية– وتصاعد قوتها السياسية ومكانتها الاجتماعية، ووصول عناصرها للسلطة ولمراكز صناعة القرار، مكنها من تسويق وبث أفكارها الأيديولوجية المُتطرفة والعنصرية في المجالات التعليمية والثقافية والفكرية والفنية والإعلامية والرياضية مما أثر تأثيراً سلبياً كبيراً على توجهات وأطروحات الأجيال الجديدة من أبناء تلك المجتمعات الأوروبية لتبدأ معها أوروبا حِقبة جديدة مختلفة جذرياً عن تلك الحقبة التي عرفت فيها أوروبا المعنى الحقيقي للحروب والصراعات وغياب السلام خلال الحربين العالمتين الأولى (1914-1918م) والثانية (1939-1945م). نعم، إن أوروبا التي شاركت بتأسيس الأممالمتحدة ووقعت على ميثاقها الداعي للمحبة والسّلام والأمن والاستقرار بين الشعوب والمجتمعات، والمحافظة على حقوق وكرامة الإنسان وحرية الدين والمعتقد كما تضمنته المادة (1) فقرة (3) "تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء"، اختلفت عن أوروبا اليوم التي تناست سلبيات السياسات والتوجهات والأيديولوجيات العنصرية والمتطرفة التي تسببت بتدميرها ومعاناتها من ويلات الصراعات العرقية والدينية والفكرية. وفي الختام من الأهمية القول: إن إقدام أحد المتطرفين بحرق نسخة من المصحف الشريف في ستوكهولم يُعبر بجلاء عن أزمة فكرية تعيشها أوروبا بسبب تصاعد تأثير الطروحات الأيديولوجية اليمينية واليسارية الاستعلائية، ويُعبر بوضوح عن أزمة أخلاقية عميقة تسببت بها النخب السياسية والدينية والثقافية بتحريضها على الكراهية والعنصرية والإقصاء لأتباع الحضارات والثقافات والأديان المختلفة. نعم، إن التحريض على الكراهية في أي مجتمع من المجتمعات ليست إلا انعكاساً لحالة التردي السياسي والاجتماعي، والتراجع التنموي والاقتصادي، والضعف الفكري والأيديولوجي، والتواضع السلوكي والأخلاقي، وهذا الذي يجعل من أوروبا في مرحلة انتقالية بين الماضي الذي تميز بالتعايش والتعاون والصداقة والبناء إلى الحاضر والمستقبل الذي تمكنت منه دعوات الكراهية والعنصرية والعداوة والبغضاء.