إن المجتمعات التي تؤمن بالتفوق الحضاري والثقافي والعرقي، والتميز الديني والمذهبي واللغوي، وتتعدى على مقدسات ورموز الحضارات والثقافات والأديان الأخرى، وتُبرر الاحتلال والقتل وسرقة الثروات، في حقيقتها وباطنها مُجتمعات عُنصرية تدعو للكراهية وتُشجع على التطرف وتُبرر للإرهاب.. الاعتدال، الوسطية، المحبة، الصداقة، المودة، الألفة، العفو، الحِلْم، الصفح، جميعها سمات وصفات تحمل في باطنها قيماً سامية ومبادئ نبيلة تدعوا للتسامُح في أزكى صوره، حيث الإيمان بأن البشر، أياً كانت حضارتهم وثقافتهم وعقائدهم وقيمهم ومبادئهم ولغتهم وسلوكهم ودينهم ومذهبهم وعرقهم ولونهم وموطن وجودهم وأماكن سُكناهم، لهم الحرية المُطلقة بالعيش كما يشاؤون، ولهم الحقوق الكاملة بأن يعيشوا بأمن وسلام واستقرار وكرامة إنسانية كما تعيش باقي الأمم والشعوب والحضارات والثقافات. ويقابل هذه الصورة الزكية الداعية للتسامح والتعايش بسلام بين البشر صفات وسمات ودعوات التعصب والتشدد والتزمت والجهل والحقد والخصومة والعداوة والكراهية والفتنة والحقد والتطرف والكره والبغضاء والتطرف والإرهاب، حيث تؤمن جميعها بأن البشر ليسوا متساويين في الحقوق، وبأن الحضارات والثقافات والأديان والمذاهب تتصارع فيما بينها، وبأن اللغات والعادات والتقاليد والأعراق والألوان يسمو بعضها فوق بعض، وبأن أماكن سُكانهم ومواطن وجودهم تحكم أفضليتهم وتُعلي أو تحُط من شأنهم، لِتتراجع بذلك قيم التعايش السلمي بين البشر، وتتعزز بذلك فُرص الصِراع، وتتسارع خطوات الصِدام وغياب الأمن، وتتصاعد عوامل زعزعة أمن وسلم واستقرار المجتمعات. فإذا وضعنا هذه القيم والمبادئ والصفات والسمات أمام ميزان العدالة الأخلاقية والإنسانية والبشرية فإن حكمها العقلاني والرشيد سيكون للجانب الأول الداعي للوسطية والاعتدال والمحبة؛ أما إن وضعناها أمام ميزان العُنصرية والكراهية والهمجية والبهيمية فإن حكمها الجاهل والضّال سيكون للجانب الآخر الداعي للتعصب والكراهية والتطرف. فإذا وضعنا هذه المعادلة السياسية أمام الواقع، فهل يُمكننا الحكم على طرف بأنه إيجابي وبناء وداعية للوسطية والاعتدال، وبأن الآخر سلبي وهدام وداعية للتعصب والتشدد والكراهية؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تتطلب الابتعاد تماماً عن العاطفة، والاقتراب كثيراً من العقل والحكمة والهدوء، ليكون الحكم مبنياً على أسس صحيحة عمادها الرئيس مراقبة ومحاكمة الأفعال التي تمارسها المجتمعات والحكومات والدول، ومتابعة ومحاكمة التصريحات الرسمية التي تصدرها الحكومات ومسؤوليها الرسميين، والابتعاد تماماً عن الشعارات العاطفية والدعايات الانتخابية التي ترددها المجتمعات والدول، وتوظفها الأحزاب وجماعات المصالح. إذاً نحن أمام مُعادلة سياسية واضحة ومُباشرة حيث الحكم يكون على الأفعال والممارسات والتصريحات الرسمية، وليس على الأقوال والشعارات والدعايات الحزبية والانتخابية. فإذا كانت المسألة بهذا الوضوح للحكم على أية مسألة في المجتمع الدولي، فإنه يمكننا التساؤل حول مسائل كثيرة ومنها التسامُح الذي كثر الحديث عنه، وخاصة في المجتمعات الغربية، وتصاعدت في الغرب وتيرة الدعوة إلى تبنيه بين المجتمعات. نعم، فإذا كان التسامُح مسألة مهمة، فإننا نتساءل إن كان الغرب يؤمن بالتسامُح فعلاً؟! إن الإجابة على هذا التساؤل ستأخذ بالمعادلة السياسية القائمة على النَّظر للأفعال والممارسات والتصريحات الرسمية الغربية رغبةً في الوصول لنتيجة أقرب للواقع، وحرصاً على الحياد الواجب تبنيه بعيداً عن العاطفة التي تنحرف بالمصداقية وتُضيع معها الحقيقة. نعم، إن النَّظر للأفعال والممارسات والتصريحات الرسمية الغربية تُخبرنا عن مدى إيمان تلك المجتمعات بالتسامُح تجاه الحضارات والثقافات والمجتمعات الأخرى. ومن مبدأ الحرص على تبني الحياد التام، فإن الابتعاد عن التاريخ والاقتراب من الواقع المُعاش يجعل الحكم أكثر مصداقية وأقرب للتصديق. فإذا أخذنا بهذا المبدأ، فإننا نجد واقعاً سلبياً قائماً ومُعاشاً في المجتمعات الغربية مثله تصريح وزير الداخلية في الجمهورية الفرنسية ليشمل المجتمعات الغربية لعدم تبرؤها منه. نعم، لقد عبر تصريح وزير الداخلية في الجمهورية الفرنسية، بحسب موقع france24 في 20 مايو 2023م، عن عُنصريةً مقيته تدعوا للكراهية بين الشعوب والصِراع بين المجتمعات كما جاء في الخبر، أنه "خلال زيارته الرسمية إلى الولاياتالمتحدة، اعتبر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان أن الإرهاب الإسلامي السني هو أبرز تهديد لبلاده وأوروبا. ودعا في السياق نفسه الولاياتالمتحدة إلى تعاون مشترك من أجل مكافحة الإرهاب لا سيما قبل استضافة باريس أولمبياد 2024 الصيفي. -وأضاف- أتينا لنذكرهم أنه بالنسبة إلى الأوروبيين ولفرنسا، الخطر الأول هو الإرهاب الإسلامي السني، والتعاون لمكافحة الإرهاب بين أجهزة الاستخبارات هو ضروري للغاية. وتابع، بينما قد تكون للأميركيين رؤية وطنية أكثر للأزمات مثل التفوق العرقي الأبيض وعمليات إطلاق النار الجماعية المتكررة والتآمر، لا يجب أن ينسوا ما يبدو لنا في أوروبا بمثابة التهديد الأول: الإرهاب السني". نعم، هذا تصريح صادر من وزير داخلية فرنسا، تلك الدولة الكبيرة في المجتمع الدولي، وتلك الدولة المهمة في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وتلك الدولة المهمة في الاتحاد الأوروبي، وتلك الدولة الرافعة لشعارات القانون والحقوق والإنسانية. نعم، إننا أمام تصريح لوزير داخلية يقوم عمله الرئيس على تطبيق القانون على الجميع وليس انتقاء من يطبق عليه القانون، ونحن أمام وزير داخلية مهمته الرئيسة حفظ النظام وحماية الناس وصون دماء وأموال وأعراض كل من يقيم في جمهورية فرنسا، وليس تأليب الرأي العام ضد فئة ممن يختلف معهم دينياً وحضارياً وثقافياً. نعم، إنه تصريح سلبي يدعو للكراهية ويحث على التطرف ويدعو لإرهاب فئة من الناس، إلا أن الأكثر سلبية هو أن هذا التصريح جاء في وقتنا الحاضر وفي القرن الحادي والعشرين حيث التقنية توصِل وتصِل للعالم أجمع وتنتشر في الوقت نفسه، مما يجعلنا نتساءل إن كان هذا هو واقع المجتمعات الغربية تجاه التسامُح في وقتنا الحاضر، فكيف إذاً كانت ممارساتهم ومواقفهم تجاه مسألة التسامُح في العقود والقرون الماضية عندما كانت التقنية غائبة والتواصل ضعيفاً أو شبه معدوم بين المجتمعات؟ نعم، قد يرى البعض أنه من غير الصائب محاكمة الواقع بالعودة للتاريخ، إلا أننا أمام واقع دفعنا دَفعاً للعودة للتاريخ لنرى إن كان هذا الواقع مُنتَجاً للتاريخ أم طارئاً عليه. فإذا عُدنا للتاريخ، فإننا نجد تاريخاً اتسم بالسلبية والوضاعة الأخلاقية واتصف بالتطرف والإرهاب مارسته قوى الاستعمار الأوروبية والغربية تجاه معظم شعوب الأرض. نعم، لقد عملت قوى الاستعمار الغربية على استعباد الشعوب وامتهان كرامتهم وسلب حريتهم وحقوقهم الإنسانية، وقامت بسرقة ثرواتهم الطبيعية واستنزاف مواردهم المادية والبشرية، وسعت لزعزعة أمن وسلم واستقرار مجتمعاتهم وحكوماتهم ودولهم، وتعدت بالتشويه والاحتقار والازدراء على حضارتهم وثقافتهم وقيمهم ومبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم، وسعت لزرع الفتنة بينهم وتمزيق وحدة صفهم، وعطلت تنمية بلدانهم وأوطانهم، وجهلت شعوبهم، ونشرت الفقر والجوع والأوبئة في مجتمعاتهم. نعم، هكذا كانت ممارسات قوى الاستعمار الأوروبية والغربية على مدى قرون عديدة، حيث الاستعباد والكراهية والتعصب والتطرف والإرهاب صفة رئيسة وسمة طاغية على سياساتها تجاه الشعوب والحضارات والثقافات الأخرى، بينما التسامُح كان غائباً على مدى القرون الماضية. فإذا كان هذا هو تاريخ المجتمعات الأوروبية والغربية تجاه المجتمعات والحضارات والثقافات الأخرى، فإن الواقع حتماً سيعكس صفات وسمات وحقيقة ذلك التاريخ المُمتد لقرون عديدة. وفي الختام من الأهمية القول: إن المجتمعات التي تؤمن بالتفوق الحضاري والثقافي والعرقي، والتميز الديني والمذهبي واللغوي، وتتعدى على مقدسات ورموز الحضارات والثقافات والأديان الأخرى، وتُبرر الاحتلال والقتل وسرقة الثروات، في حقيقتها وباطنها مُجتمعات عُنصرية تدعو للكراهية وتُشجع على التطرف وتُبرر للإرهاب حتى وإن رفعت صوتها عالياً بدعوات التسامح. نعم، إن من يدعو للتسامُح سيتبنى قيم الاعتدال والوسطية والمحبة بين الشعوب، وسيحارب بالأفعال قيم التعصب والتشدد والعنصرية البغيضة التي تقود للصراعات والنزاعات، وتَتَسبب بالحروب المُدمرة للشعوب والمجتمعات، وتُخلف وراءها المقابر الجماعية والمآسي الإنسانية. فإذا كان هذا هو واقع المُجتمعات الغربية بما صدر عنها في وقتنا الحاضر، وبما دونته سجلات التاريخ، فإن دعواتها للتسامُح لن تكون مقبولة، وحكمها على المجتمعات لن يكون مُنصفاً، وإعطاء الدروس للآخرين يتعارض مع الأخلاق والقيم والمبادئ.