(هذا ليس مهماً يا أبي أنا أريد أن أكون سعيداً فحسب، أريد أن أفعل شيئاً له معنى وقيمة في حياتي).. هذا ما قاله باولو كويلو لوالده الذي ظل يلحُّ لسنوات ويردد «لا أحد يمكنه الحصول على لقمة العيش من خلال الكتابة». لم يشعر باولو بأنه ضحية؛ بل ذلك المغامر الذي يبحث عن كنزه، عن شيء مهم بالنسبة له! حاول والداه بشتى الطرق إقناعه ليسلك مسار الهندسة كوالده، كانا قلقين جداً عليه حتى أنهما ظنا بأنه قد أصيب بالجنون وهو الآن في أمس الحاجة إلى المساعدة، فقررا معالجته بإرساله إلى المصحة النفسية عندما كان في السابعة عشر من عمره. في عام «1987» أصدر أول كتاب له بعنوان «الحج» روى فيه قصته الشخصية في رحلة الحج التي أداها من أجل البحث عن الذات واكتشاف المعنى الحقيقي لوجوده، تلك الرحلة أحدثت ثورة في حياته وجعلته يدرك حقائق عميقة غيرت الطريقة التي كان ينظر فيها الى العالم فلولا ذهابه لتلك الرحلة لما عرفنا باولو كويلو كما هو عليه اليوم. أن يسافر الإنسان.. أن يرحل.. أن يذهب بعيداً عن بيته ووطنه.. ليرى ويعرف.. إنه حب المعرفة.. إنها المغامرة.. إنه المجهول الذي يتحداه.! فكل رحلة مهما كانت هي في العمق رحلة منا إلينا، حجٌّ نرتحل به نحونا لنحيا نطوف في البدء فتبتهج النفس دواخلنا، نسعى فتتفجر النفس ينابيعاً وأنهاراً. هذا ما توصل إليه فرنكل بالتجربة المريرة التي كابدها، تلك الآلام التي كادت أن تعصف بكيانه، فما الذي يمكن أن يفعله الإنسان حينما يتحقق فجأة من أنه «لا يملك شيئًا يفقده عدا حياته المتعرية بطريقة تبعث على السخرية» لكنه استطاع في نهاية معاناته أن يصوغ معنى جديداً للحياة، أن يستقل بكيانه متحرراً من أثقال التجربة، باحثاً عن الجوهر. لقد خلّد فرانكل تجربته في سجون النازية، إذ من رَحم هذه المعاناة أصبح فرانكل صاحب إسهام في علم النفس الوجودي حتى أسس مدرسة «العلاج بالمعنى» والتي استوحى مبادئها من تجربته الذاتية، في كتابه «الإنسان والبحث عن المعنى». المعنى والسيادة والاستقلال الروحي؛ أليس هذا جوهر الحج وفلسفته، نطوف ونسعى ثم نحو عرفات نصعد، متجاوزين الحدود الشكلية والجغرافية حيث نعود إلى حقيقتنا ذات المصدر الواحد، متحررين من كل ممتلكاتنا اللهم إلا إزارين أبيضين ونفساً تواقة إلى صفاء الطفولة، نتجاوز الظاهر ونسبر أغوار الباطن الخفي من ذواتنا حيث منبع القوة، وموضع نظر الرب، هناك حيث تُذبح الأنا الزائفة بعتاد الوعي كما فعل إبراهيم حين ذبح حب التملك ذات نبوءة! هناك حيث كل فرد منشغل بتمهيد طريقه إلى جنة الروح، لا في محاولة إثبات أن غيره سيدخل النار، هناك حيث نستقبل فيض مغفرة إلهنا، فأي قلب حينها لن يجد طريقه إلى الحياة، وأي نهر حينها لن يكون بإمكانه أن يجد -أخيراً- طريقه إلى البحر. وهكذا في لحظة واحدة تتولد كل هذه المشاعر الوجدانية التي تمنحنا مساحة نحلّق بها نحو آفاقنا الداخلية وهكذا يعود الحج كل عام ليغسل نفوسنا من غبار أنانيتنا ومن الأوهام العالقة بنا، وهكذا لا ننتهي أبداً من صقل ذواتنا مثل نحَّات يقف أمام صخرة يخلصها من كل ما هو غير ضروري وغير جوهري، حيث يستحيل التِيهُ إلى يقظة روحية تدفعنا نحو الحياة دفعاً، «فالانتقال مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لَا يَكُونُ، إلَا بالانتقال مِنْ حَالٍ إلى حَال، فَإِذَا سَافرُ مَعَكَ الْهَمَّ فَأَنْتَ مَكَانَكَ لَمْ تَبْرَحْ»!