حسن حامد كان أحد نماذج الصناعة والتطوير لمنظومة الإعلام المصري ودخوله عصر الفضائيات، حيث أسس أول قناة فضائية مصرية، وكذلك أسس قطاع القنوات؛ قنوات النيل المتخصصة، والذي كان أول رئيس له، ثم رئيساً لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، حتى اختتم مسيرته في مدينة الإنتاج الإعلامي حيث شغل منصب رئيس مجلس الإدارة فيها.. لقد تعودنا دائما تذوق العسل دون أن نقتحم غابات المناحل وجمهورياتها، لم نخض أبدا غمار غيوم النحل المكتظة، لم نفهم فلسفاتها ولغاتها وطرق إدارة ممالكها، لم نهتم يوما من الأيام أن نذهب ونرى ونقترب ونقرأ ونكتب عن عوالم العمل المكتظ خلف غياهب المرئي والمعلوم. إلا أنه قد حالفني الحظ كطفلة من بنات الجنوب بالذهاب مع والدي وبعض من رفاقه لصيد عسل (المجْرى) من بين الجبال الشاهقة، فيطلق عليه عسل المجْرى لأنه يشكل نهرا يسيل بين الصخور من العسل المصفى نظر لديمومته المستفيضة وعدم الاقتراب منه لخطورة المغامرة، فسمي عسل المجرى، حينها شاهدت عالما يتمايز بين اللذة والخطر، بين ألم اللسع وحلاوة العسل وعليك أن تختار موقفك بين اللذة والألم.! مما شكل فلسفة كبيرة وعوالم خفية ودأباً لا ينقطع كل ذلك يدور في دوائر لا يدركها أحد. تذكرت كل ذلك وأنا أجلس على كرسي في مقدمة المدعويّن بدار الأوبرا المصرية لحفل -قطاع القنوات المتخصصة بالتلفزيون المصري- بتكريم الأستاذ حسن حامد عميد الإعلام التلفزيوني المتخصص ومؤسسه منذ أوائل تسعينيات القرن المنصرم. وكانت القاعة بأكملها تكتظ بالحضور ومنهم الكينج محمد منير ومجدي أبو عميرة وأشرف فايق وغيرهم من مشاهير الفن والإعلام، احتفالا به وتكريما لعطائه نادر الحدوث، ولم يخل المحفل من أجياله الثلاثة احتفاء بهذا العملاق المفكر الصانع القائد لكتائب غفيرة لا نراهم بل نرى ما تنضح به أفعالهم فقط! وكان في مقدمة هذا المحفل رجل أسمر عرفت حينها أنه الأستاذ حسن حامد، رجل متواضع مبتسم يرمق ما يدور حوله والدمعة تترقرق في جفنيه، ربما لما تثيره تلك الذكريات وهو يشاهد فيلما تسجيليا بعنوان الأستاذ، إنتاج الإدارة المركزية الإنتاج المتميز برئاسة الإعلامي عادل العبساوي وتأليف سها سعيد، ومدير الإنتاج إسماعيل عبدالعال ومن إخراج نهى المعداوي، في فيلم يستعرض رحلة حسن حامد عبر لقطات من أرشيف ماسبيرو، وعبر سجل زاخر من شهادات العديد من الشخصيات الإعلامية في هذا اليوم الذي صادف يوم عيد الإذاعيين، ولم تخل مقدمة المسرح من (بانر) طبع عليه صورة الهرم وأمامه صورة لحسن حامد، فكان العرض المفعم بالسرد والمشحون بالعاطفة يتواءم مع ما في ذلك (البانر) حتى شعرت حينها أن أبا الهول يتحدث؛ بعدما كنا نعهده في زياراتنا السياحية صامتا. حينها أدركت أنني قد دخلت خلية شديدة الشبه بتلك الخلية التي دخلتها مع والدي ورفاقه رحمهم الله! لم يكن التلفزيون المصري قبلها يبث سوى قناتين وغالبا ما كان البث ينتهي قبل منتصف الليل وكلنا كنا ندرك ذلك. لكن حسن حامد مثله مثل كل الشباب الطموح ابن مدينة أسوان الذي أدرك حينها أن لا شيء مستحيل حيث أرسل في بعثة إلى اليابان، ثم عاد منها بخبرات ومزايا القيادة العملية للتفوق والامتياز. يقول عنه تلميذه المذيع شريف عامر: وهو واحد من الأصوات الإذاعية المصرية الذي عمل في الإذاعة المصرية وفي إذاعة صوت أمريكا وفي اليابان وعاد إلى مصر لتأسيس عدد من القنوات المصرية، وأنه من الناس الذي سخره الله للغير فهو صانع التلفزيون والشاشات وداعم المواهب، وتابع شريف عامر خلال برنامج "يحدث في مصر"، المذاع عبر فضائية "إم بي سي مصر"، قائلا: حينما كنت مراسلا لقناة النيل للأخبار في الأراضي الفلسطينية في رام الله وغزة كنت كل يوم أتحدث مع أستاذي الكبير حسن حامد (كنت بكلمه علشان أقوله أنا عملت واحد اتنين تلاتة وهو مكنش مكتفني وكان بيخليني أغطي بالشكل اللي انا شايفه صح طالما مبطلعش خارج القواعد المرتبطة بشكل التقرير أو بشكل التغطية الإعلامية). ثم يقول عنه محمد منير لولا حسن حامد ما كنا شهدنا هذه الطفرة في الإعلام المصري والهيئة الوطنية للإعلام.. "ففي بداية التسعينيات من القرن العشرين، كان الرجل عائدا من سنوات عمل في اليابان كملحق إعلامي بسفارة مصر هناك، وبدا أنه من ذلك النوع الذي يعرف كيف يدير عقول الشباب ويأسر قلوبهم، فيستخرج منهم الجهد ومكنون الطاقات، ويقدم نموذجا نادرا للمدير الأب الذي يعرف كيف يقدم مزيجا مدهشا من الحزم والرفق والحنان" وهنا أدرك حسن مدى أهمية الشغل بالمتعة التي تتميز بها اليابان بأن يجعل المتعة جزءا من أجواء العمل هذا أولا، ثانيا أدرك أهمية الشباب الطامح والمتطلع واللاهث نحو التفوق إلى جانبه ونيل ثقته، فحينما يسألونه عن أيام الإجازة -على سبيل المثال- كان يقول لهم: أنتم شبان حديثو التخرج وفي مرحلة يجب أن تركزوا فيها على بناء مستقبلكم وتعلم المزيد من المهارات لا أن تفكروا في أيام العطلة! فلم يكن التعامل معهم بقدر منصب الرجل وإنما بذلك الإيمان بالشباب وتلك القدرة على بث الثقة فيهم واستخراج أفضل ما لديهم، والتعامل معهم كأبناء وهذا ثانيا. فلم يكن بالرجل ذو المنصب بقدر ما كان محبوبا قريبا ومحبا لهم، كما أن له القدرة الفائقة على سرعة اتخاذ القرار، فكون جيلا كبيرا من الأبناء الإعلاميين الذين تزخر بهم جل القنوات العربية الآن وهذا ما يحسب لهذا الرجل. حسن حامد كان أحد نماذج الصناعة والتطوير لمنظومة الإعلام المصري ودخوله عصر الفضائيات، حيث أسس أول قناة فضائية مصرية، وكذلك أسس قطاع القنوات؛ قنوات النيل المتخصصة، والذي كان أول رئيس له، ثم رئيساً لاتحاد الإذاعة والتلفزيون، حتى اختتم مسيرته في مدينة الإنتاج الإعلامي حيث شغل منصب رئيس مجلس الإدارة فيها، وقد هزتني كلمته حينما قال له الوزير حينها صفوت الشريف: لقد أطلقنا القمر الصناعي وعلينا أن نملأه، فكان التحدي! لم تكن هذه الاحتفالية بهذا الرائد لتأتي من مجاملة أو دعائية أو حتى وفاء له من أبنائه بقدر ما وجدنا فيها من كنز كبير يقودنا إلى كيفية صناعة الإعلام وكيفية صناعة المحتوى وكيفية صناعة الجيل المنتج الحرفي الذي أصبح اليوم يرتاد ساحة الإعلام العربي كله كما شعرنا بشديد الحسرة لما يقدم على الشاشات الآن من بعض الوجوه التوافه وتصنيعها، بينما الكنوز مخبأة هناك في باطن الأرض!