تعرفتُ على الشاعر عبدالله بن إدريس أول مرة عبر مقرر (الأدب) وأنا أدرس الصف الثالث الثانوي عام 1407ه في ثانوية شمران في مركز باشوت بمنطقة عسير، وعده مؤلفو الكتاب أحد رموز الأدب السعودي منوهين بكتابه الشهير (شعراء نجد المعاصرون)، ثم انتقلت للدراسة في كلية طب الأسنان بجامعة الملك سعود في الرياض فاستهواني الأدب والكتابة لأترك معامل الطب وأقع في خمائل الشعر والحب، وبدأت بنشر بعض المقالات والقصص القصيرة فاز بعضها على مستوى الجامعة ثم وجدت من يشجعني لحضور إثنينيات النادي الأدبي لإلقاء قصصي على مسرح النادي فذهبت إليه متوجساً من دخول عالم الأدباء. لكني سعدت بلقاء هذا الشيخ الجليل الذي لم يعد اسماً في كتاب؛ بل غيمة وقلبا وأبا شملني كما شمل غيري بجمال الاستقبال والترحاب والرعاية والنبل والابتسامة التي كانت عنواناً للتفاؤل والأمل تشد جميع من يدخل أروقة النادي إلى محبته وتقديره. وأسعدني قدري حينها أن ألتقي ابنه زياد الذي كان يعمل في وزارة الصحة فسعيت لصداقته وتوثيق علاقتي به، وقبلت دعوة منه لزيارته في بيته فوجدت الشيخ أمامي يحيط به أبناؤه ليكرموني جميعا بحسن استقبالهم، وتمنيت حينها أن يعرف أهلي وأقاربي أني كنت ضيفا عند ابن إدريس في بيته الذي يلتقي فيه صفوة رجالات الدولة والأدباء والعلماء، وأني ألقيت عليه وأبنائه وضيوفه الحاضرين شيئاً من قصائدي، والشيخ الشاعر الأديب الفصيح الذي دافع عن الفصحى وحذر من العامية طوال سنوات لا يتوقف عن الابتسام وتشجيع هذا الشاب الجنوبي وهو قصائده الشعبية الرومانسية! ومضت السنوات لأحضر مناسبات عديدة في النادي الأدبي بالرياض وأرى على الطبيعة الأسماء الرنانة المشهورة التي كنت أقرأ لها في ملاحق الأدب، وأتعرف أكثر على نبل الشيخ وتواضعه وأدبه الجم ورغبته في إحاطة الجميع برعايته وتشجيعه وحرصه على إحداث التوازن المطلوب بين جميع التوجهات. واستمررت بعد تخرجي من الجامعة وانتقالي للعمل معلماً في (بيشة) أتابع مسيرة ابن إدريس وأبحث أكثر عن نتاجه الجميل متعرفاً على دواوينه ومنجزاته والتحديات التي واجهته في حياته العملية والأدبية. ثم سعدت بعدها إذ شاهدته يحصل على التكريم الذي يليق بسيرته ودوره الوطني في حركة الثقافة والأدب، وقبل ذلك الصحافة والتعليم، من يد الملك عبدالله بن عبدالعزيز كأحد رواد الأدب السعوديين المؤثرين. وبعد رحيله -رحمه الله- قرأت عشرات المقالات ترثيه وتبرز عصاميته وتكوينه المعرفي وتأثيره الأدبي وتحكي عن شخصيته الودودة وسيرته وريادته وأثره، ثم قرأتُ قبل عام كتاب (قافية الحياة) عن سيرته الذاتية، وأظنه عنواناً اختاره في تواضع ليكون بعيدا عن النرجسية والافتخار والاعتداد بالنفس، وإلا فإن حياته مليئة بالتميز والمجد والشهرة، وبمواقف النبل والكرم والتعفف والصدق والنزاهة والورع والحرص على المال العام. وقد حظيت شخصيته الاجتماعية والأدبية بمحبة وتقدير بالغين لما يملك من سمات التسامح والحب وحسن الظن وإعانة الآخرين وحفظ المعروف والترفع عن الزلات والبعد عن المناكفة والجدال. رغم ما كان في مقالاته من جرأة ومباشرة ومافي شخصه من بعدٍ عن المداهنة والمجاملة على حساب المبادئ والقيم. والقارئ لسيرة ابن إدريس (قافية الحياة) يجد أن (عبدالله) ولد سادساً بين أخوته، وقد دعت أمه قبلها وهي تبكي متوسلةً إلى الله أن يعوضها في ابنتها التي توفاها الله؛ بولدٍ يكون له (حس وصيت) بين الناس؛ فرزقها الله به، واستجاب لدعواتها، وزاد على الصيت والحس محبةً وتقديراً من قادة هذه البلاد، ومن أدبائها ومثقفيها فوجد الشهرة والتكريم في حياته، والبر والسمعة الحسنة والمبادرات التي تبرز سيرته ومناقبه بعد مماته. ومن رأى تَحلُّق كبار المثقفين حول أمير الرياض الأمير فيصل بن بندر ظهر الاثنين الماضي وهو يستمع لابنه البار الدكتور زياد يشرح للأمير بحضور أخوته وأحفاد الشيخ رسالة مركز ابن إدريس الثقافي فسيعرف أنه حظي بما يستحق بعد أن شابت قافية حياته وانقطعت، وأن تلك الدعوات من تلك الأم الباكية عند غدير الباطن قرب قرية (حرمة) قبل سبعة وتسعين عاماً قد استجيبت. عاش ابن ادريس طفولته في قريته التابعة لأقليم سدير، مستزيداً من علوم الدين واللغة فنال منها حظاً كبيراً وحفظ القرآن الكريم، ثم انتقل للرياض مع والده الذي عينه الملك عبدالعزيز إماماً لقبيلة حرب، فصار طالب علم في حلقة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عام 1366 ه، ليتعين بعد عامين مدرساً في مدرسة الفيصلية بالرياض، وعند افتتاح المعهد العلمي عام 1369 ه ترك الوظيفة والتحق بالصف الثالث الثانوي ليتخرج منه ويكمل دراسته الجامعية ضمن أول دفعة حصلت على شهادة البكالوريوس من كلية الشريعة. وفي كتاب (السيرة) قصة فصل الطالب عبدالله بن إدريس من هذه الكلية بعد اتهامه بتزعم مظاهرة طلابية نال براءته منها، لكنها كانت سببا ليكتب قصيدته الجميلة (في زورقي). رفض ابن إدريس بعد تخرجه وظيفة القضاء تورعاً فعُين مفتشاً فنياً في المعاهد العلمية زارها جميعا حتى وصل حدود جيزان، وكاد أن يتزوج منها على يد الشيخ القرعاوي لكنه قاوم الإغراءات؛ رُقّي إثرها إلى وظيفة مدير عام التفتيش والامتحانات بالمعاهد العلمية، قبل أن تجبره معارضة الرئاسة لخطته في تملك (فيلا) جديدة في حي الملز بقسط شهري؛ للانتقال للعمل مساعداً للتعليم الثانوي في وزارة المعارف ثم مديرا للتعليم الفني (الصناعي والتجاري و الزراعي). أعيرت خدماته بعدها بطلب من مفتي الديار السعودية ليكون رئيس تحرير صحيفة الدعوة. ولك أن تتخيل كيف هي بدايات الصحافة قبل 70 عاماً في صحيفة تتبع المؤسسة الدينية ليأتي هذا الشاعر الأديب الشاب الذي لم يبلغ الأربعين من عمره فيتولى رئاسة تحريرها ثم يجمع كأول صحفي سعودي بين رئاسة التحرير وإدارتها العامة بعد عام، ويطلق لها العنان لتواكب الحاضر وتنافس الصحف الأخرى مستمتعاً بالثناء مرة، ومتحملاً النقد مرات، ومواجهاً العقبات في مواقف كثيرة وهو يضيف لمادة لصحيفة الدينية والثقافية والسياسية أبواباً جديدة تواكب اهتمامات القراء الرياضية والاجتماعية وشؤون المرأة. ويزخر تاريخ ابن إدريس الصحفي في إدارته لصحيفة الدعوة بالتميز والإنجاز والإبداع والتفكير خارج الصندوق الذي كان تجاوزه حينها تحدياً كبيراً شرحته قصص ومواقف ومقالات كثيرة هي مدار حديث المجالس حينها، وكان وقعها وإيقاعها عند الصحفي والشاعر الشاب مثيرا لمزيد من الحماس والعمل. ولحواره ولقائه بالملك فيصل عام 1385ه قصة جميلة يرويها في كتابه (قافية حياة) وهو يدخل عليه في مكتبه المتواضع ويصافحه ويحاوره، ثم يكتفي منه حسب اقتراح الملك بكلمة نشرها على الصفحة الأولى في العدد الثاني من الصحيفة، وهو سبق غبطه وربما حسده عليه كثير فكيف لصحيفة في عددها الثاني أن تحصل على كلمة من (الملك) وأي ملك؟! لكن ابن إدريس في النهاية غادر (الدعوة) وقد حظيت بنجاح كبير مشهود تحت إدارته ورئاسته لتحريرها واستحقاقها للبروز والشهرة دل على ذلك كله مدح وثناء أول وزير سعودي للإعلام الشيخ جميل الحجيلان أمام رؤساء التحرير مشيداً بتوجهها وحيويتها واعتدالها وافتتاحياتها التي يكتبها رئيس التحرير رغم هامش الحرية الصغير الذي تملكها الصحافة حينها! كانت الوظيفة الجديدة بعد ذلك في وزارة المعارف أميناً عاماً للمجلس الأعلى للعلوم والفنون والأداب الذي شارك في إعداد نظامه وصدر بمرسوم ملكي موقع من الملك فيصل. انتقل بعد ذلك إلى جامعة الإمام محمد بن سعود أميناً عاماً للجامعة ثم مديراً للبعثات والدراسات العليا، فمديراً للثقافة والنشر العلمي وعضواً في مجلسها العلمي، واختتم مسيرته الوظيفية في العمل الحكومي عام 1409ه. التقى الأديب ابن إدريس في بداية حياته الصحفية والأدبية بالعديد من رموز الثقافة والأدب العرب منهم طه حسين ومحمد مندور وعباس العقاد وأحمد حسن الزيات والشاعر محمود حسن اسماعيل والدكتورة عائشة عبدالرحمن ونازك الملائكة. ومع كل منهم كان نقاش في الأدب والشعر لم يخل من الحديث عن كتابه (شعراء نجد المعاصرون) الذي نقل لهم الصورة الحقيقية عن هذه الدولة الفتية وأدبها ومثقفيها. وقد قربته - دواوينه ومقالاته ولقاءاته الصحفية والتلفزيونية وعلاقاته مع رموز الثقافة في المملكة وخارجها وحبه للشعر وصنعة الأدب ومهاراته في الحوار وسبر أغوار القضايا الثقافية - من مسؤولية أخرى، ليتولى بعد اعتذار الشيخ عبدالله بن خميس رئاسة النادي الأدبي في الرياض طوال23 عاماً كانت من أزهى فترات النادي إنتاجاً وتطويراً واحتفاءً بالرموز والأدباء والشعراء والشباب، كما مكّن المرأة من الحصول على موقع مميز خاص بها في النادي لعرض نتاجها والمشاركة في الفعاليات غير رئاسته لأهم مجلتين ثقافيتين صدرتا في ذلك الوقت هما (قوافل) و (الأدبية) مع إقامة أكثر من 150 محاضرة وأمسية شعرية وقصصية في عهده. وطبع النادي مئات الكتب رغم أن ميزانيته كانت أقل جداً من المأمول. اختير ابن ادريس عضواً في العديد من المجالس والجمعيات والهيئات، وشارك بشخصيته الفاعلة المثقفة المتزنة ممثلاً للسعودية في كثير من المؤتمرات والمهرجانات الخارجية، وحصل على كثير من الأوسمة والدروع والميداليات ؛كان من أهمها تكريم الملك عبدالله بن عبدالعزيز له بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. وصدرت له عدة دواوين شعرية وكتب أدبية عنيت بالشعر والشعراء والأدباء. وقد عاصر ابن إدريس نشأة هذه الدولة المباركة والتقى ملوكها بداية من الملك عبدالعزيز الذي لقيه في الثامنة عشرة من عمره بالقرب من جامع الإمام تركي بن عبدالله فصافحه وسأله عن اسمه ودعا له. ثم كبر الشاب وشاهد وشارك في نهضة بلده التعليمية والصحفية والثقافية والأدبية، وكانت علاقته مع أمير الرياض (الملك سلمان ) قوية مبنية على ثقته به وبحكمته وحسن إدارته للأمور خاصة عند توليه رئاسة النادي الأدبي فحظي بتقديره وتكريمه. جمع ابن إدريس -في تجاربه ومسؤولياته التي تولاها وتميز فيها قائداً ومُشعلا لحماس من يعمل معه- بين المعرفة والثقافة والعلم الشرعي وموهبته الأدبية وتمكنه اللغوي وحضوره الإعلامي وشخصيته النبيلة المتعففة وفكره الراقي المنفتح على الحوار وقبول الرأي الآخر ومناقشته. وحُق لهذا الرمز من رموز الأدب والثقافة في السعودية أن يكرّم بمركزٍ ثقافي يحمل اسمه، ويعتني بإرثه الأدبي والشعري، ويواصل تحقيق أحلامه ونشر قيمه التي آمن بها طوال حياته أديباً وشاعراً وناقداً وإعلامياً، وقبل ذلك كله رجل دولة مخلص أمين مثقف تشهد بريادته مواقفه ومؤلفاته ودراساته النقدية والأدبية والتاريخية وإنتاجه الأدبي والفكري طوال عقود. ولا يستغرب على النبلاء الذين تدارسوا مبادرة مركز ابن إدريس من مثقفين ومسؤولين ومن آل إدريس تبنيها والسعي لتفعيلها وتنشيطها تحت إدارة متميزة بخبرة طويلة متنوعة لفريق العمل وبإشراف رئيس مجلس الأمناء فيها ورئيس المجلس التأسيسي الدكتور زياد بن عبدالله بن إدريس صاحب المواقف الوطنية والمبادرات (العربية) في اليونسكو. وستصل بإذن الله الكريم بركات دعوات تلك الأم التي كانت تبتهل باكيةً عند الغدير طالبةً العوض من الله بولد يكون له صيت و(حس) إلى مركز ابن إدريس الثقافي ويشع فيض عطائه وشعاع أعماله وبرامجه كل أرجاء الوطن، ويصل (زورق الحلم الجميل) إلى شاطئ السلامة والثقافة والإبداع، متفائلين وسعيدين جميعاً بمؤسسة عبد الله بن إدريس الثقافية الخيرية، التي ينبثق عنها المركز ودورها المتوقع في توجيه الشباب للاعتزاز بهويتهم وتاريخهم والحفاظ على تراثهم، فاعلين في مجتمعاتهم ونهضة وطنهم، مستفيدين من المبادرات والفعاليات الثقافية التي سيقدمها؛ بما يتواءم مع برامج وأهداف رؤية السعودية، ويعزز مكتسباتها الثقافية والفكرية والحضارية. أمير الرياض مدشناً مركز عبدالله بن إدريس الثقافي الأديب عبدالله بن إدريس