متابعة الأخبار ومشاهدتها بشكل دائم تجعلك تدرك كم أن السياسة أمر معقد ومتعب ومتغير وتلعب فيه المصالح دوراً مهماً وجوهرياً. فصديق اليوم قد لا يصبح كذلك في الغد ومن كنت تختلف معه بالأمس قد تتغير الأحوال وتجعله في موقع أفضل اليوم، والعلاقات بين الدول قد يعتريها الفتور أحياناً وقد تصبح في أفضل حالاتها في بعض الأزمنة، وهكذا هو الشأن السياسي، يعيش أطرافه بمفهوم شعرة معاوية والتي تتطلب اللين أحياناً والشدة في أحيان أخرى، كل ذلك تحكمه مقتضيات الظروف وما يفرضه الحال والواقع. من يجلس ويشاهد المشهد من بعيد وبمنظور سطحي أو سريع لن يستطيع حتماً إدراك صورة المشهد كاملةً، فكل ما يستطيع أن يراه هو زاويته الضيقة والتي يبني من خلالها آراءه ويصدر أحكامه، ولكن من يعرف بواطن الأمور ويعايش بشكل لحظي الأحداث ويتعامل معها ويتحمل تبعاتها سيكون لديه معرفة بقِطَع الأحجية كاملةً وأفضل الخيارات أو الحلول التي يجب عليه الأخذ بها. المملكة العربية السعودية، بلد أثبت ويثبت للعالم أجمع وبشكل مستمر الرزانة والحكمة والحزم في العمل السياسي، السعودية ليست ثقلاً اقتصادياً فقط، وإنما ثقل ديني وثقل سياسي وعسكري، والآن تعمل وبشكل جاد في أن تكون ثقلاً علمياً ومعرفياً وتقنياً، وهي في هذا الطريق تسير بكل ثبات وعزيمة وإصرار. القمة العربية الأخيرة والتي تم عقدها يوم الجمعة الماضي في مدينة جدة وأطلق عليها قمة جدة، والتي تسلمت فيها المملكة العربية السعودية رئاسة القمة من دولة الجزائر الشقيقة، بينت كالعادة الدور القيادي للمملكة الذي تتمتع فيه بالمنطقة والعالم. حيث سعت قمة جدة وبشكل واضح لرأب الصدع الذي حصل في العلاقات العربية-العربية بسبب عدد من المشكلات السابقة في المنطقة، بل وأضافت قمة جدة بعداً جديداً في مفهوم العمل السياسي العربي وهو الاهتمام بالقضايا الدولية الساخنة والمؤثرة عن طريق استضافة شخصيات سياسية ذات علاقة بتلك القضايا، حيث حضر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قمة جدة، وشارك كبقية الوفود بكلمة أوضح فيها موقفه ووجهت نظره بخصوص الصراع الدائر بينهم وبين روسيا، وأكد أيضاً في كلمته على أهمية الدول العربية ودورها فيما يجري من أحداث على مستوى العالم. وفي القمة ذاتها بعث الرئيس الروسي رسالة للقمة العربية يؤكد فيها أهمية العلاقات الروسية العربية وحرص روسيا على ديمومة واستقرار هذه العلاقات ونموها وازدهارها. قمة جدة لم تكن محل اهتمام وكالات الأنباء والإعلام في المنطقة فقط، وانما كذلك وكالات الأنباء والإعلام في العالم بشكل عام، حيث خصصت أشهر محطات التلفزة والإعلام العالمية في الشرق والغرب مساحات على منصاتها ومواقعها لعرض أخبار القمة وأهم ما تم تداوله خلالها وما نتج عنها من بيان ختامي. المملكة تتحرك دائماً كلاعب رئيس ومؤثر في المنطقة وفي العالم، وتعلم الدول النشطة على الساحة الدولية كالولايات المتحدةوروسياوالصين كم هو من المهم جداً المحافظة على علاقات جيدة ومتينة مع المملكة حتى وإن كانت هنالك بعض الخلافات في فترات زمنية معينة في وجهات النظر حول بعض القضايا والمواضيع. حرب الخليج وحرب اليمن والخلاف السابق مع إيران وعدد من القضايا الأخرى توضح دائماً حكمة القيادة السعودية في التعامل مع الأزمات والأحداث المختلفة، وبينت للعالم أجمع أن المملكة لديها قرارها المستقل وتقدم ما يخدم مصالحها حتى وإن اختلفت معها دول كبرى في العالم كالولايات المتحدة أو الصين أو روسيا. من أزعجتهم الخطوة السعودية في حل الخلاف مع إيران، وجمع وتوحيد العرب، هم أنفسهم من يبررون لحماس الارتماء في حضن إيران، ومن يبررون لتركيا علاقتها مع إسرائيل، وهم نفس الأشخاص الذين يبررون لأنفسهم التحالف حتى مع الشيطان لو اقتضى الأمر. مثل هؤلاء يستخدمون مجهراً بعدستين، عدسة تدقق على كل ما تقوم به المملكة من أعمال ومحاولة الطعن فيها، وعدسة تضخم وتمجد كل عمل يتوافق مع توجهاتهم وطموحاتهم. وعلى أي حال، دولة بحجم وثقل المملكة العربية السعودية تسير وفق رؤية واضحة وعمل منظم ولا تعير لمثل هؤلاء أي انتباه. العالم الغربي كذلك أثبت وبشكل واضح تلون وازدواجية المعايير التي يتبعها في التعامل مع الأزمات الدولية، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية خير دليل على ذلك، والتشدق بالحرية والعدالة والشفافية من قبل الغرب انكشف وبشكل واضح وجلي خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، حيث تعاملت أغلب الدول الغربية بشكل مختلف وبناءً على مصالحها ومعايير مختلفة تماماً مع الأزمات في العراق وأفغانستان وسورية وليبيا والسودان وغيرها من الدول. مخطئ من يراهن على معايير الغرب، فهي معايير تحركها المصلحة والفائدة، وهذه طبيعة السياسة. المملكة اليوم -وعبر حكم ممتد منذ ثلاث قرون- لديها نفوذ وتأثير ليس فقط في العالمين العربي والإسلامي وانما كذلك على المستوى الدولي، فالعديد من الدول حول العالم تثق وتؤمن بالدور المهم والقيادي الذي تلعبه المملكة في الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي عالمياً، وقيادة المملكة عُرف عنها دائماً الحكمة في التعامل مع الأحداث والقضايا وتغليب المصلحة وليس المهاترات السياسية والمزايدات والعنتريات التي لا تصنع السلام ولا الاستقرار. قمة جدة كانت مثال على الدور السعودي المميز والفعال في جمع كافة الأطراف والعمل المشترك مع الجميع وإيجاد حلول تساعد في ازدهار المنطقة والعالم. ودام عزك يا وطن.