إن الذي يجب أن تعلمه هذه الوسائل أو الأدوات الخادمة للسياسات العالمية على حساب مصالح مجتمعاتها ودولها أنها سوف تكون هدفاً رئيساً لتلك القوى العالمية حال الانتهاء من تنفيذ الخطط المرسومة لها كونها في أصلها أطرافاً خائنة لمجتمعاتها ودولها، وبالتالي لن تكون محل ثقة أو احترام.. النظم الإقليمية الرئيسة القائمة في أنحاء المجتمع الدولي ليست إلا انعكاس مباشر للنظام العالمي القائم. وهذا الانعكاس يعني أنه لفهم طبيعة وشكل وهرمية النظام الإقليمي في أية منطقة من مناطق العالم، ولمعرفة آلية عمله، وطريقة تفاعله وتفاعل مكوناته ووحداته الفاعلة، فإنه يجب بالضرورة معرفة طبيعة وشكل وهرمية النظام العالمي، ومعرفة آلية عمله، وطريقة تفاعله وتفاعل مكوناته ووحداته الرئيسة. نعم، إنها عملية هرمية من الأعلى إلى الأسفل حيث التراتبية الهرمية القائمة في النظام الدولي هي المحرك الرئيس للسياسة الدولية الكلية في النظام العالمي، وفي الوقت نفسه هي المحرك الرئيس للسياسة الدولية الجزئية في النظم الإقليمية الرئيسة في المجتمع الدولي. هكذا هي السياسة الدولية، حيث هي قائمة في الواقع، وحيث هي تتضح في التفاعلات الإقليمية القائمة، عملية مترابطة ببعضها حيث لا يمكن فصلها، أو تجاهلها، أو التغاضي عن تفاعلاتها. وبما أن هذه السياسة الدولية تأتي من الأعلى إلى الأسفل، في عملية هرمية واضحة المعالم، لتؤثر بالنظم الإقليمية أياً كان حجمها ومستوى دولها، فإن دراسة النظام العالمي دراسة دقيقة، ومعرفة طبيعة القوى، أو القوة الرئيسة، المهيمنة على هذا النظام العالمي من حيث أيديولوجيته، ومصالحه، وتوجهاته، وتحالفاته، وأهدافه، وطريقة عمله، وتفاعلاته، ونظرته للمستقل، أمر غاية في الأهمية لأنه يساعد كثيراً على معرفة طبيعة التفاعلات الإقليمية، وتوقع السياسات الاقليمية القادمة على المدى القصير، والتنبؤ بمستقبل وشكل وهرمية النظام الإقليمي على المديين المتوسط والبعيد. فإذا وضعنا هذه المعادلة السياسية المُباشرة والواضحة والسهلة في عين الاعتبار عند النظر للنظام الإقليمي القائم في منطقة الشرق الأوسط وما يشهده من حراك سياسي، فإنها سوف تساعدنا كثيراً على فهم طبيعة التفاعلات القائمة، وتشرح لنا الأسباب والمسببات المؤدية للسياسات الإقليمية، وتساهم بتعريفنا بالمستقبل المرسوم لهذه المنطقة والمراد بنائه وتأسيسه على المديين المتوسط والبعيد. وهذه العملية المترابطة بين النظام الإقليمي والنظام العالمي من جهة، والعملية المعقدة من التفاعلات المرسومة داخل النظام الإقليمي من جهة أخرى، تكون وتمثل تقاطعات مصالح تؤثر على النظام الإقليمي على جميع المستويات. وهنا يأتي التساؤل حول ماهية هذه المصالح المتقاطعة، وماهية هذا التأثير؟ نعم، إن منطقة الشرق الأوسط ليست إلا جزء من نظام كُلي يؤثر بها بشكل مُباشر وفعال وقوي، وهذا التأثير دائماً ما كان انعكاساً لطبيعة التفاعلات القائمة في النظام العالمي. فعندما كان هذا النظام العالمي ثنائي القطبية -السوفيتية الأميركية- في الفترة الممتدة من 1945 إلى 1991م، تأثرت منطقة الشرق الأوسط بتلك الثنائية القطبية المُتضادة والمُتصارعة أيديولوجياً، حيث كانت الشيوعية في مقابل الرأسمالية، لتصبح التجاذبات الإقليمية المتضادة معبرة بشكل أو بآخر عن تقاطعات مصالح تلك القوى العالمية. نعم، لقد مثلت تلك التجاذبات الإقليمية حالة من حالات تمثيل مصالح تلك القوى العالمية في منطقة الشرق الأوسط مما تسبب بشكل مُباشر وغير مُباشر بسقوط أنظمة سياسية، وزعزعة أمن وسلم واستقرار مجتمعات، وصراعات دولية مسلحة خدمةً وتنفيذاً ورعايةً لمصالح تلك القوى العالمية المُهيمنة على النظام العالمي. وكان من نتيجة هذه التقاطعات العالمية وما نتج عنها من تضارب في المصالح بين القطبين الرئيسين في المجتمع الدولي، أن انقسمت منطقة الشرق الأوسط بما يتماشى مع التقاطعات العالمية، وأصبحت منقطة مصغرة لتمثيل مصالح تلك القوى الرئيسة في المجتمع الدولي بمختلف الطرق والأساليب والممارسات. نعم، هكذا كانت تقاطعات المصالح في النظام الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط خلال القطبية العالمية الثنائية حيث التوجهات الشيوعية والاشتراكية والتدخلية تواجهت مع التوجهات الرأسمالية والليبرالية والتبادلية، ولتصبح منطقة الشرق الأوسط مسرحاً صريحاً لتقاطع مصالح القوى العالمية الرئيسة حتى نهايتها بتفكك الاتحاد السوفيتي وتفرد الولاياتالمتحدة بقيادة النظام العالمي مُنذُ 1991م. نعم، لقد انتهى زمن تقاطع المصالح العالمي بنهاية القطبية الثنائية، إلا أن تقاطع المصالح في منطقة الشرق الأوسط لم ينتهِ، وإنما ابتدأ مرحلة أخرى متأثراً بشكل مُباشر بالنظام العالمي أحادي القطبية الأميركية. نعم، فبعد أن كان تقاطع المصالح الإقليمي متأثراً بتناقض مصالح القوى العالمية، الشيوعية مقابل الرأسمالية، أصبح تقاطع المصالح متأثراً بتوجهات وسياسات ومصالح القوة الرئيسة المُهيمنة على النظام العالمي الجديد وهي الولاياتالمتحدة الأميركية. إذاً، النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مثله مثل غيره من النظم الإقليمية في المجتمع الدولي، سوف يتأثر تأثراً مُباشراً بذلك التحول الكبير في النظام العالمي، إلا أن هذا التحول مختلف اختلافاً جذرياً عما كان عليه قائماً في نظام القطبية الثنائية. نعم، إن النظام العالمي أحادي القطبية الأميركية مختلف اختلافاً جذرياً عما كان عليه نظام القطبية الثنائية، حيث أصبحت مصلحة الولاياتالمتحدة الرئيسة تتمثل في تعزيز هيمنتها على النظام العالمي، وفرض توجهاتها وفكرها ومصلحتها على السياسة الدولية، ومواجهة ومحاربة كل من يسعى لمنافستها على إدارة النظام العالمي. هذه هي الاستراتيجية التي تبنتها الولاياتالمتحدة في إدارتها للنظام الدولي، وهذه هي الاستراتيجية التي عملت على تنفيذها في النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، كما في غيره من النظم الإقليمية في المجتمع الدولي. وسعياً لتحقيق أهداف هذه الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، عملت على إضعاف النظم السياسية التي لا تتوافق معها سياسياً بشتى الطرق السياسية والاقتصادية والمادية والأمنية، وسعت لإسقاط النظم السياسية التي تتقارب أو تتحالف مع منافسيها المحتملين، وتبنت عناصر وجماعات وتنظيمات في المنطقة لابتزاز كل من يختلف معها سياسياً من دول المنطقة، ودعمت أحزاباً سياسية وقومية وطائفية لتكون بدائل مُتاحة تخدم مصالحها حال تضررت مصالحها في منطقة من المناطق. ونتيجة لهذه الاستراتيجية الأميركية السَّاعية لخدمة مصالحها العالمية، تقاطعت المصالح الإقليمية داخل منطقة الشرق الأوسط لتزداد حدة التوتر الإقليمي حتى انشغلت دول المنطقة ببعضها، وتتصاعد حدة الصراعات العرقية والمذهبية والطائفية حتى انقسمت الكثير من المجتمعات، وتضاعفت فرص الخلافات والصراعات والحروب الإقليمية لتتسبب بالاستنزافات المالية والمادية وتعطيل التنمية الاقتصادية والصناعية والتقنية، وعملت بجد لتُبقي مُجتمعات ودول منطقة الشرق الأوسط في حاجتها سياسياً واقتصادياً وصِناعياً وتقنياً وأمنياً وعسكرياً وفي غيرها من مجالات حيوية ومهمة. فإذا أدركنا هذه الاستراتيجية القائمة في أساسها على تعزيز هيمنة الولايات المُتحدة على النظام العالمي، فإننا نستطيع إدراك طبيعة التفاعلات السياسية القائمة في منطقة الشرق الأوسط منذ 1991م، وسوف نتمكن من التعرف على الأسباب المؤدية للصراعات والحروب والتوترات القائمة داخل وبين مجتمعات ودول الشرق الأوسط. وفي الختام من الأهمية القول إن حالة الصراع المُستمرة والقائمة داخل وبين مجتمعات ودول الشرق الأوسط، التي تمثل في شكلها الظاهر صراع مصالح إقليمية، ليست في حقيقتها إلا وسيلة لخدمةً مصالح القوى أو القوة المُهيمنة على النظام العالمي، أو أداة للقوى السّاعية للهيمنة العالمية. إن الذي يجب أن تعلمه هذه الوسائل أو الأدوات الخادمة للسياسات العالمية على حساب مصالح مجتمعاتها ودولها أنها سوف تكون هدفاً رئيساً لتلك القوى العالمية حال الانتهاء من تنفيذ الخطط المرسومة لها كونها في أصلها أطرافاً خائنة لمجتمعاتها ودولها، وبالتالي لن تكون محل ثقة أو احترام.