منذ تسعينات القرن الماضي، شهدنا عددًا متزايدًا من الدراسات حول كتابة التواريخ الوطنية والطرق التي تبني بها الشعوب هوياتها من خلال عملية سرد تاريخي خاص، فالطريقة التي نفهم بها الماضي تتغير بمرور الوقت، وبذلك يتغير الماضي -كما نتصور- ويتغير تبعا لذلك ما نعتبره مهمًا لنا فيما يتعلق بهذا الماضي الطويل. ومن هنا من الأهمية بمكان أن يستكشف البحث التاريخي كيف يقوم الناس (بما في ذلك المؤرخون) ببناء تصوراتهم حول أنفسهم، ومجتمعاتهم، والآخر المختلف. إن مثل هذا الفهم المطلوب للهويات الوطنية وعلاقتها بكتابة التاريخ الأوروبي كان موضوعا للبرنامج العلمي: "تمثيلات الماضي: كتابة التاريخ الوطني في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين"، والذي استكشف بعمق آليات كتابة التاريخ الوطني في 30 دولة أوروبية بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر حتى اليوم، بدأ البرنامج من افتراض أن التاريخ كان أحد أهم المكونات في بناء الهويات الوطنية في أوروبا. وقد قامت أربع فرق باستكشاف كيفية حدوث ذلك بشكل منهجي، مؤكدة على التفاعلات والتحويلات والمقارنات بين مختلف البلدان الأوروبية. لقد صدر هذا الكتاب في ثمانية مجلدات وأكد بشكل مقنع أهمية كتابة التاريخ الوطني لتشكيل الهوية الوطنية في أوروبا في تلك الفترة، ولقد سعدت مؤخراً بالحصول على نسخة من هذه المجلدات وقرأتها، ولعل ما يلفت انتباه المتخصص هنا قدرة هذا المشروع على تتبع تشكيلات الهوية الوطنية عبر مساحة جغرافية كبيرة، وعبر نطاق زمني طويل، حيث شهدت بعض هذه الدول تشكيل هويتها الوطنية وتزامنه مع كتابة تاريخها الوطني، ثم خفوت مثل هذه الهوية في فترة ما، لتعود مرة أخرى كقوة محركة في المجتمع، كما أن نجاح المشروع في جمع العلماء من شطري أوروبا كان له أثر واضح على استكمال الصورة المراد تتبعها، حيث شارك في هذا البرنامج مئة عالم. وأخيراً، لا يخطئ المتخصص حذر العلماء الغربيين في استعمال مصطلحات "الهوية الوطنية"، أو "التاريخ الوطني" أو "القومية" لما في ذلك من ارتباط بمأسي الحربين العالميتين، والعديد من الحروب داخل القارة العجوز.