بدت أدنبرة في نهاية الشهر الماضي، وهي تودع مهرجاناتها الكثيرة الصاخبة، وكأنها تحتفل بنيل بعض استقلالها النسبي عن بريطانيا" ففي السادس من أيار مايو عام 1999 انتخب البرلمان السكوتلندي الجديد المستقل عن البرلمان الإنكليزي بعد مرور حوالى ثلاثمئة عام على وحدة انكلترا وسكوتلندا عام 1707. مياه كثيرة مرت منذ تلك الأيام، لكن أهالي سكوتلندا لم يتخلوا عن أحلامهم بنيل بعض الاستقلالية في تسيير شؤونهم حتى إن بعض الأحزاب ورجال السياسة الفاعلين ما زالوا يطالبون بالاستقلال عن الدولة البريطانية. هذا الجو السياسي المشحون، الذي رافق انتخاب البرلمان السكوتلندي في منتصف العام الماضي، انعكس على الأوضاع الثقافية في أدنبرة والمدن السكوتلندية الأخرى. ومهرجان أدنبرة العالمي للكتاب هذا العام، خير دليل على صعود الثقافي بالتوازي مع توالد الأسئلة السياسية التي تشدد على الخصوصية السكوتلندية. فإضافة الى مهرجان ادنبرة العالمي للكتاب، الذي دعا أكثر من 110 كتاب من بريطانيا والعالم، نظم المجلس الثقافي البريطاني، بالتعاون مع المجلس السكوتلندي للفنون، مهرجاناً للكتاب السكوتلندي دعا إليه 60 من أشهر كتاب سكوتلندا وروائييها وشعرائها ومسرحييها ونقادها ومؤرخيها وصحافييها. وطوال خمسة أيام التقى الجمهور في أدنبرة مع كاتبي روايات الجريمة، اللذين تبيع رواياتهما ملايين النسخ في بريطانيا والعالم، كولين ديكستور وإيان رانكين، ومع عدد كبير من الشعراء والروائيين والصحافيين الأقل شهرة. لكن المشهد الثقافي السكوتلندي المتنوع كان حاضراً بقوة من خلال القراءات التي قدمها بعض الكتاب من أعمالهم الصادرة حديثاً، وكذلك من خلال الحوارات التي دارت بين الكتاب والجمهور وركزت في معظمها على خصائص الثقافة السكوتلندية وتميزها عن سواها من الثقافات الفرعية المكونة للثقافة البريطانية المعاصرة. محاضرة في عنوان "اختراع سكوتلندا"، للمؤرخ المتخصص بالتاريخين السكوتلندي والإيرلندي توم ديفاين والذي صدر له كتاب جديد عنوانه "تاريخ سكوتلندا 1700- 2000" وباع مئات الآلاف من النسخ، كشفت صعود الهوية السكوتلندية الصاخب عبر السياسة وكذلك الثقافة. ففي محاضرة هذا المؤرخ البارع، الذي تحدث عن تشكل الهوية القومية السكوتلندية ثم خفوتها ثم بروزها مرة أخرى في أواخر القرن العشرين، كان واضحاً أن النخبتين السياسية والثقافية في سكوتلندا جاءتا لتستمعا الى رؤية مؤرخ حاذق الى مستقبل سكوتلندا بعد انتخاب برلمانها المستقل وخصوصاً أن الأحزاب التي تشكل البرلمان منقسمة على نفسها في ما يتعلق بموضوع الانفصال أو البقاء في إطار الاتحاد البريطاني. هناك ثلاثة أحزاب في البرلمان تؤيد الاستقلال عن المملكة المتحدة هي الحزب الوطني السكوتلندي، وحزب الخضر، والحزب الاشتراكي السكوتلندي، وثلاثة أحزاب تعارضه هي حزب العمال الجديد، وحزب المحافظين، والحزب الليبرالي الديموقراطي. ومن الواضح في هذا السياق المحموم والنشاط المحتدم أن الثقافي يلهم السياسي في ما يخص الهوية الوطنية الصاعدة التي تتجلى في البحث عن الجذور الثقافية الغائرة في التاريخ، وذلك عبر العدد الهائل من الكتب الصادرة خلال الأعوام القليلة الماضية عن تاريخ سكوتلندا ومعالمها الأثرية ودورها في النهضة البريطانية وأعلامها الثقافيين وفلاسفتها وعلاقاتها الأوروبية السابقة إذ تميل سكوتلندا، عكس انكلترا، الى رفع وتيرة الاندماج مع أوروبا. ويرفع الحزب الوطني السكوتلندي الذي يحتل حوالى ثلث مقاعد برلمان ادنبرة شعار "سكوتلندا جزء من أوروبا". لهذا يمكن النظر الى مهرجان ادنبرة العالمي للكتاب، الذي يترافق مع انعقاد عدد كبير من المهرجانات الأخرى التي تجذب مشاركين من أنحاء العالم كافة مهرجان أدنبرة العالمي، مهرجان ادنبرة العالمي للسينما، مهرجان ادنبرة الموازي، الخ بوصفه قياساً لحرارة المشاعر السكوتلندية تجاه الانفصال شيئاً فشيئاً عن المملكة المتحدة الأم بعد ما يقارب ثلاثمئة عام من الوحدة. وعلى رغم أن جواً كرنفالياً ساد هذه المهرجانات جميعاً، حتى في لقاءات الكتاب مع جمهور أدنبرة، إلا أن السياسة كانت تطل برأسها على الدوام من خلال التشديد على الخصوصية السكوتلندية سياسياً وثقافياً. ولم ينج كاتب مثل كولين ديكستر مبتدع شخصية المفتش مورس البوليسية من أسئلة جمهور ادنبرة حول سبب جعله، هو الكاتب السكوتلندي الأصل، مدينة اكسفورد الإنكليزية مسرحاً لروايات الجريمة التي يكتبها" فيما حاز كاتب مثل إيان رانكين صاحب شخصية المفتش ريبوس إعجاب الجمهور وتعاطفه لأنه يتخذ من أدنبرة مسرحاً لروايات الجريمة التي يكتبها. هكذا يمتزج الشعبوي بالسياسي والثقافي في لحظة صعود الهوية الوطنية السكوتلندية بعد ثلاثة قرون من الاندماج التام في إطار المملكة البريطانية المتحدة. ويجد هذا الشعور ما يغذيه في الجذور الثقافية البكتية Pictish والستلية Celtic لسكوتلندا، والتي تمتزج فيها عناصر قبلية ووثنية تقول الكاتبة إي.ل. كنيدي، في مقالة لها عن الثقافة في سكوتلندا، إنها دفعت في دماء الثقافة السكوتلندية حباً للتطرف والمبالغة في نفي الذات وكبت العواطف والمشاعرالجنسية، والتعويض عن ذلك بالامتثال والخضوع للأعراف الأخلاقية والعمل الشاق والاهتمام الشديد بالتعليم والالتزام بالقيم البرجوازية. وقد أدى ذلك الى امتلاك سكوتلندا انجازاً فنياً هائلاً، قياساً الى عدد السكان الذي لا يزيد عن خمسة ملايين نسمة، كما جعل هذا الإنجاز يحتفي بالانتشاء اللغوي والتطرف في الخيال وتمجيد الطاقة الجسدية الهائلة. يمكن أن نعثر على هذا الانقسام، في الشخصية والتعبير، في التوجهات العقلانية للمفكرين السكوتلنديين الحديثين التي تقابلها في الأدب أشكال للتعبير الرومانسي أو السحري الغامض عن العالم. فهناك مثلاً الفيلسوف الشهير ديفيد هيوم المولود في أدنبرة 1711- 1776 الذي كان واحداً من أعلام التنوير في سكوتلندا واستطاع أن يطور فلسفة جون لوك التجريبية ويؤثر تأثيراً بالغاً في فكر الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط. مقابل هذه العقلانية التجريبية التي طبعت إنجاز الفلاسفة والمفكرين السكوتلنديين هناك تيارات ثقافية تتخذ من المثير والغامض والسحري واللاعقلاني مصدر إلهامها. وقد تجلى هذا التأثير في طبيعة التوجهات الأدبية في سكوتلندا التي أعطت للعالم أشهر شخصيات القصص والروايات البوليسية إذ ابتدع الكاتب السكوتلندي السير آرثر كونان دويل المولود في ادنبرة 1859- 1930 شخصية شرلوك هولمز، كما كتب روبرت لويس ستيفنسون المولود في ادنبرة كذلك 1850- 1894 واحدة من أشهر الروايات العالمية المكتوبة للأطفال "الجزيرة المسحورة"، ليكتب بعدها روايته البوليسية - النفسية "الحالة الغريبة للدكتور جيكل والمستر هايد". إن سكوتلندا تمتلك إذن إرثاً عريقاً للرواية البوليسية يفسر الصعود المدهش لهذا النوع من الكتابة الروائية الشعبية في الثقافة السكوتلندية في نهايات القرن العشرين. وما شاهدته، في مهرجان أدنبرة العالمي للكتاب، من إقبال منقطع النظير لحضور اللقاءات مع كتاب هذا النوع الروائي يؤكد تأثير الجذور الثقافية السكوتلندية على خياراتها الحديثة. ولكن إضافة الى هذه الجذور الثقافية فإن طبيعة المدينة السكوتلندية المعاصرة وأخص هنا مدينة أدنبرة تلون النتاجات الأدبية السكوتلندية بلون خاص، فمن المعروف عن أدنبرة مثلاً أنها مدينة إدمان المخدرات في أوروبا. ولعل مشاهد البارات وتناول الخمر بإسراف، ومشاهد الإدمان على المخدرات، التي نقع عليها في القصص والروايات والمسرحيات والأفلام، من بين ما يميز الكتابة السكوتلندية عن غيرها. ليست سكوتلندا إذاً هي تلك التي صورها السير والتر سكوت رائد الرواية التاريخية في العالم والمولود في ادنبرة 1771- 1832 بوصفها استعارة رومانسية ممتدة تغذيها الطبيعة الجميلة الساحرة الخلابة لسكوتلندا التي تمثل ثلث مساحة بريطانيا كلها. إنها مزيج من ميراث طويل يمتد الى ما قبل أيام الرومان الذين وصلوا الى سكوتلندا عام 80 ميلادية ولكنهم لم يهزموها عسكرياً لكن أرجاء سكوتلندا تشهد على الحضور الروماني من خلال القلاع العسكرية الرومانية ومن خلال السور الذي بناه الرومان ليصد هجمات القبائل الشمالية التي قاومت حكمهم. لكن المدهش بالفعل هو الإقبال الكثيف نسبياً على لقاءات الشعراء في إطار مهرجان أدنبرة العالمي للكتاب. فقد حظيت الندوات المخصصة للشعراء السكوتلنديين بحضور كبير نسبياً بالقياس لما نشهده من إقبال ضعيف على الشعر في العواصم الأوروبية. وهكذا تألق شاعر سكوتلندا الشهير روجر ماك غوف الذي يركز على ثيمات الحياة المعاصرة ويحول مادة هذه الحياة الى لعب على الكلام والمفارقات والإيقاعات التي تتولد من كلمات إنكليزية متداخلة يكتبها ماك غوف على تلك الشاكلة لتوليد ايقاعه وقوافيه القوية. إنه شاعر حديث يأخذ مادته من اليومي والبسيط ولكنه حريص على الشكل التقليدي للشعر الإنكليزي، ومنشغل في الوقت نفسه بالوصول الى الجمهور العريض من الكبار والصغار الذين يسليهم ويضحكهم ولكنه يجعلهم يتفكرون أيضاً بالطبيعة المعقدة للحياة اليومية المعاصرة. ويفسر هذا الوضع المعقد لصعود الهوية الوطنية السكوتلندية ذلك التداخل بين اليومي والأسطوري، السياسي والثقافي، الجذور الثقافية البعيدة والأسئلة الملحة المعاصرة، الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية التي ترضي ذوق الجمهور الواسع" كما يفسر الصراع الخفي بين اللغة الرسمية المتداولة الإنكليزية واللغة الموروثة غير المستعملة الغالية Gaelic. إنه زمن صعود الهويات القومية والثقافات الفرعية، وليس زمن العولمة كما يظن البعض!