الموجز المدرسي للتاريخ المقرر لطلاب الاعدادية الصف الثامن يعلن عن الهدف الرئيسي للبرنامج الجديد بالشكل التالي: "تزويد الطلاب بوسائل فهم واضح ومبني لتاريخ وجغرافية أوروبا وفرنسا". إنه حقاً برنامج واسع غايته إعداد أجيال جديدة مكونة من مواطنين لا تعود هويتهم فقط فرنسية، "إذ حتى يكون المرء في مطلع الألفية الثالثة مواطناً فرنسياً وأوروبياً، يتطلب هذا الأمر"، كما يتابع الموجز، "معرفة جيدة بالتطور التاريخي الذي أدى إلى نشوء وتنظيم اقليمي لقارتنا وبلدنا". لكن من العبث أن نبحث عن تحديد لأوروبا ما دامت العادة مترسخة في معالجة الأزمنة الحديثة من زاوية القوميات. علينا إذن أن نبحث في مكان آخر عن ملامح الهوية الجديدة المفروض بها احتلال مكانة متزايدة، بل حصرية، في فكر الأجيال الطالعة. في الحقيقة ان الكتاب المدرسي المخصص في الصف الثامن لدرس التربية الوطنية، يقترح مفهوماً مبنياً على "ثقافة ومبادئ مشتركة" صاغتها التيارات الفنية والفكرية الكبرى. ها هي منفرطة العقد، إذن، الأطوار المتعاقبة لبناء أوروبا بدءاً من اليونان الديموقراطية، فروما الشرع المكتوب والكنيسة مفهوم الفرد انتهاء بالمثال الديموقراطي وحقوق الإنسان. يرتسم هنا أمام أعيننا الانتقال التدرجي من القومي إلى القاروي مع تلاشي الأمم المبرمج وابتكار أمة فوقية لا أحد اليوم يستطيع أن يرسم حدودها. ذلك أن الأمر يتعلق، في الواقع، بثورة فعلية للعقليات نستطيع تقدير أهميتها إذا أخذنا في الاعتبار الجهد التعليمي الضخم المبذول خلال قرنين من أجل بناء الهويات القومية، منذ مفهوم "روح الشعب" Volksgeist لفيلسوف القرن الثامن عشر الألماني هيردر في كتابه "التاريخ والثقافات"، حتى مفهوم الثقافة القومية. وقد وضعت آن ماري ثيسه في كتابها "ابتكار الهويات القومية، أوروبا من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين" سوي 1999 تقييماً مدهشاً مفاده: حتى تولد "الطوائف المُتخيلة"، اقتضي أن تكون تنظيرات المنظرين متبوعة بعمل حول التاريخ، الجغرافية، الثقافة واللغة. وتوجب علينا تلفيق صور، خرافات وأساطير كانت تساعد في انشاء وتكوين شعوب اعتباراً من المدرسة. لم يعد أمامنا اليوم خيار سوى أن نرى أكثر فأكثر كتباً تتناول تاريخ أوروبا، وأن ننتقي من جميع أنواع الكتب حتى العلمية، ملامحها المتميزة. لقد دشنت سلسلة ذات عنوان طوعي نشر أعمال استخلاصية تحت اشراف كبار الاخصائيين: "صنع أوروبا" باشراف جاك لوغوف، وقد صدر بأكثر من خمس لغات. ومن بين هذه المؤلفات الكتاب الرائع "الجوع والوفرة" بقلم ماسيمو مونتاناري. كما أن مؤلف آخر ما صدر عن هذه السلسلة هو أيضاً ايطالي: فرانكو كارديني الذي سبق وأتحفنا بعمل عظيم عن الثقافة العسكرية في أوروبا. أما في كتابه الأخير "أوروبا والإسلام، تاريخ سوء تفاهم"، فإنه يسرد لنا كيف تم بناء أوروبا كسلب أي كردة فعل ضد الإسلام. بعد قراءة هذا الكتاب الذي ينم عن ذكاء ودقة وفطنة ازاء التصورات الذهنية، لا نمتنع عن الاحساس بضيق حيال رؤية المؤلف اذ ينساق إلى تبيان الآخر فقط من زاوية مساهمته في تحديد أوروبا بسلوكيته المعاكسة لها. لكن ما هو الإسلام اليوم؟ في اللحظة التي تستعد فيها أوروبا للانصهار قالباً واحداً، تلازم دول الجنوب والشرق المتوسطي، بلا رحمة، حركة تقوية الأمة - الدولة التي شُرع فيها قبل نصف قرن تقريباً... * افتتاحية مجلة معهد العالم العربي باريس "قنطرة"، عدد تشرين الثاني نوفمبر 2000.