وأخيرًا، يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد ضاق ذرعًا من محاولات الإدارة الأمريكية فرض هيمنتها السياسية والعسكرية والاقتصادية على أوروبا وجرها إلى سياسات الاستقطاب في سعيها المحموم لاحتواء روسياوالصين من أجل أن تظل الشرطي الوحيد الذي يتحكم بمصير هذا العالم. بعد زيارة للصين امتدت لثلاثة أيام اجتمع خلالها لأكثر من عشر ساعات مع الرئيس شي جينغ بينغ، منها أربع ساعات التقيا خلالها منفردين بصحبة مترجمين، قال ماكرون إن «أسوأ شيء هو الاعتقاد بأننا نحن الأوروبيين يجب أن نكون أتباعًا» حول مسألة تايوان، و»أن نتكيّف مع الإيقاع الأمريكي ورد الفعل الصيني المبالغ فيه»، داعيا أوروبا إلى «الاستيقاظ»، مضيفًا: «أولويتنا ألّا نتكيّف مع أجندة الآخرين في مختلف مناطق العالم». وفي تصريحات لصحيفة «لي إيكوس (الصدى) Les Echos» وبوليتيكو، دعا ماكرون إلى جعل «الاستقلال الاستراتيجي معركة أوروبا»، والتقليل من الاعتماد على الدولار الأمريكي مضيفا: «يكمن التناقض في إرساء عناصر لاستقلال استراتيجي أوروبي حقيقي، وفي الوقت عينه اتباع السياسة الأمريكية». تعكس هذه التصريحات حالة التململ السائدة بين بعض دول الاتحاد الأوروبي من الإملاءات الأمريكية التي لا تستطيع التخلص من المظلة الأمريكية المفروضة عليها منذ الحرب العالمية الثانية. لكن حكومات هذه الدول لا تملك الجرأة الكافية في الدعوة إلى استقلالية موقفها، وإن كان بعضها، مثل هنغاريا، قد أعلن صراحة عن معارضتها للعقوبات الاقتصادية ضد روسيا، بينما أعلنت دول أخرى، مثل ألمانيا، معارضتها للضغوط الأمريكية على أوروبا لتزويد أوكرانيا بالسلاح ما أحدث نقصًا كبيرًا في مخزونها سيحتاج تعويضه إلى سنوات. كما تعكس محاولات التخلص من سطوة الدولار الأمريكي في الوقت الذي أخذت فيه بعض الدول تتعامل بالروبل الروسي واليوان الصيني. وقد تميزت فرنسا في محطات تاريخية كثيرة بتباين مواقفها مع الإدارة الأمريكية، ومنها موقف الرئيس جاك شيراك الذي عارض بشدة الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 الذي جرى بناء على كذبة أسلحة الدمار الشامل. الرئيس ماكرون يواجه مشكلات سياسية ونقابية داخلية وربما أراد من هذه التصريحات تحسين صورته أمام الناخب الفرنسي، لكنه في الحقيقة يدرك بأن فرنسا، وهي الدولة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه، من أكثر الدول تضررًا اقتصاديًا من السياسات الأمريكية تجاه روسياوالصين. بل إن الأنانية الأمريكية بلغت حد المنافسة غير النظيفة في مبيعات الأسلحة كما حدث في إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا وبيع غواصات أمريكية لها. يضاف إلى ذلك المنافسة الأمريكية في الدول الأعضاء في المنظمة الفرانكفونية الدولية في إفريقيا. من خلال دعوته إلى ترسيخ أوروبا كقطب عالمي ثالث، يدرك الرئيس ماكرون خطورة العسكرة الأمريكية في جنوب شرق آسيا لمواجهة الصين في قضية تايوان والتي قد تؤدي إلى صراع نووي، فالولايات المتحدة، على الرغم من سياساتها القائلة بالصين الواحدة، تواصل استفزازها للصين سياسيًا وعسكريًا لجرها إلى صدام. ربما يكون الرئيس الفرنسي قد فتح على نفسه عش الدبابير الأمريكية، لكنه أراد قول الحقيقة، فكما تقول الحكمة الصينية « من يصنع الأصنام لا يعبدها»، فأوروبا صنعت من الصنم الأمريكي إلهًا وقد آن الأوان لمحاولة التخلص منه، وخاصة بعد انكشاف لعبة الاستخبارات والخداع بعد تسريب وثائق البنتاغون السرية الخاصة بالحرب في أوكرانيا.