منذ الإعلان عن التوصل إلى إتفاق سعودي - إيراني لاستنئاف العلاقات الدبلوماسية، بوساطة صينية، والتحليلات لا تتوقف عن أبعاد هذا التطور الذي يمثل بالفعل منعطف جيوسياسي مهم للغاية في العلاقات الدولية. وهناك رؤى عديدة ترى في الوساطة الصينية مؤشراً واضحاً على ما وصفته صحيفة "الغارديان" البريطانية بالانطلاق الصيني نحو الساحة العالمية بعد عقود طويلة من العزلة والانكفاء على الذات. "لم يعد من الممكن عرقلة استئناف مسيرة أمتنا العظيمة" هذه العبارة التي قالها الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه أمام البرلمان الصيني استوقفت الكثير من الخبراء والمتخصصين، وربطوا بينها وبين صعود دور الصين في قضايا وموضوعات شتى. عادت الصين بقوة إلى الساحة العالمية بعد أن تخطت تداعيات الإغلاق العام منذ بدء تفشي وباء كورونا، ورغم أن النفوذ الصيني في قارة حيوية كإفريقيا يتنامى بشكل هائل خلال الفترة الماضية، حيث تشير التقارير إلى بناء أكثر من 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية، وجذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية بقيمة 7.3 مليارات دولار، كما بلغ حجم التجارة بين الصين وأفريقيا نحو 254 مليار دولار في عام 2021، مقارنة ب64.33 مليار دولار بين الولاياتالمتحدة وأفريقيا، ورغم ذلك فإن دخول الصين بثقلها في منطقة الخليج العربي قد حظي بالاهتمام العالمي الأكبر بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للمنطقة كمورد عالمي للطاقة، وكذلك لأنه ظلت لسنوات وعقود طويلة حكراً على النفوذ الأميركي. الشواهد تقول إن الاتفاق السعودي- الإيراني لن يكون التحرك الصيني الوحيد باتجاه تعزيز نفوذ بكين في منطقة الخليج العربي، فهناك تقارير تتحدث عن جهود دبلوماسية صينية تبذل لاحتواء الأزمة في اليمن كأحد ثمار الاتفاق الأخير، وهناك زيارة مرتقبة للرئيس الصيني إلى طهران، حيث تسعى بكين لضمان الأمن والاستقرار في منطقة تزودها بنحو نصف احتياجاتها من موارد الطاقة. تتحرك الصين على الساحة الدولية بالأساس اعتماداً على قوة ناعمة هائلة ترتكز على مبادرة "الحزم والطريق"، التي تمثل نموذجاً للعولمة الصيني كما قال أحد الخبراء الصينيين، وتعمل المبادرة منذ إطلاقها في عام 2013 كقاطرة للدور والنفوذ الصيني عالمياً، حيث تمتد استثماراتها وأنشطتها من شرق آسيا حتى أوروبا، وتشمل أيضاً القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، وتشمل طريق الحرير البري والبحري لربط المدن الصناعية والاقتصادية الصينية بالوجهات التجارية والتسويقية في آسيا وأوروبا وإفريقيا، حيث أنفقت الصين نحو 200 مليار دولار على الأنشطة والخطط المدرجة ضمن هذه المبادرة في أكثر من 60 دولة. في منطقة الخليج العربي تتحرك الصين في ثقة اعتماداً على شراكات استراتيجية وقعتها مع دول مجلس التعاون من ناحية وإيران من ناحية ثانية، واعتماداً على درجة عالية من القبول بدورها مقابل تراجع وانحسار متسارع للدور والنفوذ الأميركي، بسبب سلسلة من الأخطاء المتكررة والمستمرة التي ارتكبتها الإدارات الأميركية المتوالية منذ دعم الفوضى والاضطرابات التي اندلعت في دول عربية عدة عام 2011. ورغم التوقعات والتقديرات الأميركية الأخيرة بشأن استعداد الصين لغزو تايوان بحلول عام 2027، وربما قبله، بحسب مانقل عن مصادر الاستخبارات الأميركية، التي تحذر كذلك من احتمالية تقديم هذا الموعد، فإن رحلة صعود الصين إلى قمة هرم النظام العالمي اعتماداً على ركائز متنوعة من القوة الشاملة، تشير إلى صعوبة الاقتناع بالتقديرات الزمنية الأميركية بشأن غزو تايوان، ما لم تقم الولاياتالمتحدة باستفزاز الصين بالشكل الذي يجعلها تنفذ خطط استعادة الجزيرة. بلاشك أن جميع عوامل ومؤشرات القوة الاستراتيجية باتت تميل تدريجياً لمصلحة الصين، وبالتالي من الصعب على القيادة الصينية الدفع باتجاه خوض حرب تدرك مقدماً أنها قد تتسبب في تأخير رحلة صعود البلاد إلى موقع قيادة النظام العالمي، ورغم أن الرئيس جين بينغ قد تعهد في مستهل ولايته الرئاسية الثالثة بتحويل القوات المسلحة الصينية إلى "جدار من الفولاذ لحماية مصالح الأمة"، فإن هذا لا يعني بالضرورة وجود نوايا وشيكة لغزو تايوان، وهذا لا يتعارض أيضاً مع الفكرة القائلة بوجود خطط صينية استباقية للسيطرة على الجزيرة، بالنظر إلى تصميم بكين على استعادة تايوان إلى "الوطن الأم".