حين يتم التركيز على الهُويّة وأهمية ترسيخها، فإن هذا يترجم الوعي الحقيقي العميق بقيمة الوطن، وتنميته، وحمايته، وتكريس الصورة المثالية لما يجب أن يكون عليه من نصاعة في الحضور والدور والأثر. من هنا فإن الهوية لا تنفصم أبداً عن وجهتنا الحضارية المتواشجة مع ماضينا المجيد ومكتسباتنا الإنسانية والثقافية، وتقديم أنفسنا للعالم بهويتنا الأصيلة ذات الرسوخ والعمق الإنساني والحضاري الذي كان نتاجاً طبيعياً لتعاقب حضارات وأُمم، وموروث غني وثريّ، وساحة سلام، وملتقى للحوار والآداب والفنون واللغة. ولذا فلا غرابة أن تكون الثقافة الرهان الأهم والأكبر في تسيير قاطرة التحديث، ونشر قيم الجمال والسلام والتواد؛ عبر برامج وهيئات عديدة استصحبت معها مضامين الرؤية الحصيفة 2030 التي جعلت من الإنسان، والأرض، وعبقرية المكان، مُنطلقاً لمجتمع حيوي، واقتصاد مزهر، يقوده شعب طموح. اليوم تتبدّى بجلاء مُبهر ثمرات هذه الرؤية؛ فالحراك الثقافي المُعزّز للهوية هو القاسم المشترك للمناشط والفعاليات والبرامج المختلفة. ففي أقل من أسبوع شهدنا عدة مناشط مهمة؛ تتواشج بوعي واستبصار في تعزيز الوعي والهوية؛ سعياً لإنشاء جيل على درجة من الوعي، واستشعار المواطنة الحقة، وتحصين هذا الجيل بالفكر السّويّ الرصين، والفكر الناقد الذي لا ينساق خلف دعاوى الأفكار المنحرفة، أو ذات الطابع الدوغمائي المتصلّب، جيل مستبصر ويحمل فكراً نقدياً يقف صدّاً منيعاً أمام غلواء التطرف وجموح الأفكار الضالّة. وقد كان التنوّع الثقافي للمناشط والبرامج من السطوع والأهمية ما يجعلنا نبتهج أننا ماضون في طريق سليم وذي أثر فكري يعزّز قِيَمَ الخير والحق والجمال؛ فهنا نشاهد وزارة الثقافة تدشّن «سينما أهل أول» في جدة، والتي تستهدف إحياء ذاكرة «موسم رمضان» في منطقة البلد بجدة التاريخية؛ وتعرض عبر شاشة في الهواء الطلق مسلسلات وبرامج رمضانية قديمة؛ بهدف استدعاء أجواء رمضان وتفاصيل الحياة في الشهر الفضيل قديماً وتأخذ الزائر في رحلة الذاكرة والحنين إلى الماضي. وقد أحسنت وزارة الثقافة أن خصّصت موقعاً إلكترونياً لموسم رمضان يتضمن تفاصيل وأماكن إقامة فعاليات الموسم، وأتاحت للمهتمين تحميل الدليل الإرشادي لهوية موسم رمضان 1444ه؛ ليكون مرجعاً للراغبين في المشاركة واستخدام الهوية ضمن محتواهم ومنتجاتهم الإبداعية الموسمية. هذه الخطوة لا شك ستساهم في إبراز الموروث الثقافي وإحيائه، والتعريف بالثقافات المحلية المتنوعة، وتعزيز العادات الرمضانية المرتبطة بذاكرة ووجدان السعوديين. أيضاً كان للنقد حضوره؛ فقد دشنت «هيئة الأفلام» الملتقى الأول لمؤتمر النقد السينمائي في جدة ضمن خمسة ملتقيات متخصصة تُقام في عدة مدن بالمملكة، بهدف تمكين المواهب الوطنية من أدوات النقد السينمائي، وكذلك تمكين الشغوفين بعالم النقد وصنع الفرص لهم، على اعتبار أن النقد السينمائي يتجاوز تحليل وتقييم الأفلام إلى تذوق جمالياتها المختلفة من الإخراج إلى الموسيقى التصويرية حتى الإضاءة والأداء. اليوم العالمي للمسرح لم يكن بعيداً في حضوره الثقافي فقد جرى الاحتفال به في مناطق عديدة من الوطن؛ وهو احتفاء يضعنا في قلب الفعل الثقافي وصناعته. هذه الجهود المهمة تستدعي أن نعمل جميعاً -جميع مؤسساتنا وإعلامنا بأقنيته العديدة- على تكريس القيمة الحضارية للهوية والوعي، وتقديم نماذجنا المضيئة بعيداً عن الهذر والتسطيح الميديائي المتفشّي؛ وكذلك دحر التغوّل للتافهين وتصديرهم كنماذج تكرّس التسطيح والهشاشة الفكرية.