فرغ الفؤاد أي خلا من كل شيئ فلم يعد معلقا بأمر سوى الهم الفكري الأولي رغم ما يعرض للإنسان من أمور ورغم تعدد الأشخاص من حوله، وتعدد الحاجات والرغبات والهموم والنوائب. وليس لمخلوق على وجه الأرض أن يبلغ به الهم هذا المبلغ سوى الأم.. ولم يذكر القلب بل الفؤاد، مكان التفاعل والتعلق العاطفي والنفسي، وهو الذي يضيق ويضجر ويهتم ويألم حتى يكاد ينفطر، بينما القلب هو مكان العقائد الراسخة. أم، أمة، أمم.. أم الشيء جلُه وأصله ومعظمه؛ لذا بلغت عاطفة الأمومة قداسة لا توازيها عواطف أخرى، ولا يدرك كنهها ومداها سوى الأمهات وإن اعترف غيرهم بها فهو تسليم الموقن بحقيقة ثابتة راسخة كالإيمان بالغيبيات المثبتة وليس لأحد أن يجرؤ على الاستخفاف أو الاستهانة بها، فيقف البشر كافة أمام تلك العاطفة مهما بلغت، موقف التسليم والتعظيم. وما كان للأم أن تبلغ المنزلة الأسمى على الإطلاق في الفضل والحقوق وقوة العاطفة وصدق الشعور لولا أن اختصها الله بذلك ومنحها من القدرة على التحمل والصبر ما لا يستطيعه بشر لولا لطف الله. "أمي" يهتف بها القلب قبل أن تلفظها الشفتان، أمي هي النداء الوحيد الذي ينبع من الشعور دون إدراك لما يأتي بعده، بحثا عن الأمان والطمأنينة بحثا عن ملجأ يحمينا من قسوة الحياة ومعارك البشر. للأم رائحة لا نجدها في العطور شرقيها وغربيها، يقال إنها من نسائم الجنان ولصوت الأم إيقاع شجي حنون له وقع في الروح وعذوبة في المسامع ورقة في القلوب وفي أحضانها يبدو العالم صغيرا حقيرا وكل الهموم تتبعثر. أمي هي الكائن الوحيد في هذا الوجود الذي كلما كبرنا نصغر أمامها أكثر، ونفتقر إليها أكثر، أمي كل الأيام أنت، وكل أمان يبدأ بك وينتهي إليك، وكل الحب لا يوازي حبك.