تسير بخطواتك المتلهفة في ممر السعادة، متجهًا نحو المدخل الذي ينقلك للعالم إلى حيثما تريد أن تطير. تتقدم نحو المضيف الجوي وتبرز رقم مقعدك لتتوجه نحوه بشوق ليحتويك، تضع أمتعتك وتستعد للجلوس، تحتمي بحزام الأمان، وتحول هاتفك لوضع الطيران، وأخيرًا.. تغمض عينيك لترتاح ثوانٍ معدودة من لحظات الركض التي بدأت بها يومك؛ لتصل. لتصل وتحظى بلحظات تأمل عميقة تمنتها عيناك، ولتتنفس روحك وتستكن. وها قد وصلت! تلتفت إلى النافذة، وإذا بالغبار يكتسي زجاجها، باهتة مشوشة لرؤية الجمال، يتكدر خاطرك وتقاوم محاولًا إرضاء نفسك تلمع عينيك لأجل أن تستمع باللحظة، وتشعر بالحب والامتنان لبقية رحلتك، تستعد الطائرة للإقلاع، وتستعد أجنحة روحك للتحليق، ترتفع قليلًا باتجاه السماء حيث تغادر الجفاء ولحظات الشقاء، تحملك الريح إلى حيث أنت، نحو النقاء، نحو السحاب تغوص في بياض الغيم في صدر السماء. وتبدأ روحك وفكرك بالتحليق. سيسألك أحدهم: ماذا يعني أن تجلس إلى جانب النافذة؟ لماذا يتسابق أطفالك للجلوس في هذا المكان وكأنه غايتهم من كل مُتع الرحلة! وستجيبهم: أن تجلس إلى جانب النافذة يعني أن ترى مدينتك باتساعها في غمضة عين، بؤبؤ عيناك لا يتسع لمشاهدة الدهشة والعظمة، تبدو الأشياء أصغر من حجمها الحقيقي، أنت ارتفعت وناطحات السحاب المهيبة قد تصاغرت، تمامًا كما تصغر وتتلاشى مشكلاتنا إذا ابتعدنا عنها. تعرجات الطرق وازدحامها التي كنت في معمعتها وغمرتها وترتادها يوميًا رغم وعورتها قد قصرت، تتخيل الكثافة السكانية التي كنت في أوساطهم، الأهل والأحباب، سكان المدينة الذي يقطنون في كل بقعة، وتمر على بقعة أرضية كبيرة لا تشبة بقية الأراضي! أرض مقسمة يعلو كل مستطيل خشبة مستندة بداخلها تكمن أرواح قد غادرت الدار، واستقرت في دار راحة إن كانت قد أحسنت في دارها الأولى، ودار شقاء إن أساءت في أولاها، تتوقف لبُرهة وتدعو لهم بالرحمة، تستعيد ذاكرتك شريط النقاشات الحادة والمشكلات الماضية والقائمة التي دارت بين أحبابك، كم تبدو سخافتها كبيرة وأنها لا تستحق، تعود للتأمل وتتبادر إلى ذهنك خواطر كثيرة حينما ترى الصروح الشامخة من المنازل والبنايات تتساءل عن حالهم، ماذا يدور في داخلها؟ ثم تقع عيناك على عمارة الأرض، المشروعات القائمة والأبراج الشاهقة، وتوجه السؤال لنفسك عن دورك: ماذا أضيف لهذا العالم؟ هل أشكل جزءا ذا قيمة من إعمار هذه الأرض؟ وما هي إلا عشر دقائق حتى تختفي ملامح الأرض وتغوص إلى صدر السماء حتى تود أن يكون هذا المكان منزلك ومستقرك بعيدًا عن كل شيء، تستمر في التأمل واستشعار الكثير واستذكار النعم، تُطفئ إشارة ربط الأحزمة وتفك قيود جسدك الذي ارتمى على الكرسي بلهفة، تمر عربة المبيعات الجوية وتعيرها اهتمامك، فمعدتك قد أجاعها قوة التأمل والتفكير، تشحن طاقتك لتستعد للهبوط أخيرًا والعودة للحياة الواقعية مجددًا بكفاحك وعزيمتك، ومتشوقًا لنقلة جديدة من حياتك في تفكيرك ونظرتك لكل شيء، هكذا تكون قد أخذت مستراحك وجددت إلهامك من خلف نافذة الطائرة «غير اللامعة»، المكان الذي يتسابق إليه الكبير المنهك قبل صغير السن، حيث تجد فيه لساعات مستراحك وتجدد فيه طاقتك، مهما كانت ظروفك وبعيدًا عن كل شيء.. خُذ مُستَراحك.