رواية «اعترافات شرسة» لميا كوتو الصادرة عن دار الآداب بترجمة مارك جمال، تدور أحداثها في قرية إفريقية نائية، تتكرر فيها هجمات الأسود الغامضة، وتتحدث عن اضطهاد النساء في أفريقيا، وسفاح القربى والاغتصاب والتمثيل بالأجساد وأشكال أخرى من العنف على لسان البطلة «ماريامار» التي تكتب يومياتها أو اعترافاتها، التي من خلالها نتعرف على تفاصيل حكايتها، وعلاقتها بعالمها وقريتها وأبوها، ثم كيف تسعى للتمرد على تلك القرية وذلك العالم الذي لا يسمح للنساء بالحياة والحب، «أمعنت أمي في تحذيري، وهي التي عرفت الشقاء، فأخبرتني أنَّ الآلام تنقضي ولكنَّها لا تزول. بل تتسرب إلى دخيلة أنفسنا، لتشغل موضعًا في كياننا، وتغوص في أعماق البحيرة»، كما تقول الأم لابنتها ماريامار في أحد المواضع: «لقد دُفنا منذ أمد بعيد، نحن النساء. دفنني أبوكِ. وحتّى جدتك، وجدتكِ الكبرى، جميعهن دُفن على قيد الحياة». كما لا تخلو من طرح لمسائل وجودية تمس الإنسان في كل مكان، بالإضافة لبعض التفاصيل الجغرافية والتاريخية، عبر وصفها المجتمع والعادات والتقاليد حول الميلاد والحياة والموت. والقاتل الحقيقي في هذا الرواية ليست الأسود بل التقاليد، حيث يكتشفها القارئ مع تقدّم السرد، تلك المعتقدات تجعل أهل كولوماني سجناء وأسرى بائسين. من خلال قسوة المجتمع وجهله وخوفه العظيم من كسر قيود الماضي، ويرد الكاتب بحسرة واضحة على لسان إحدى الشخصيات: «من في قرية كولوماني يجرؤ على الوقوف في وجه التقاليد؟ ... لا أحد». كل فصل يبدأ بقول مأثور أو مثَل، ويتناوب سرد الفصول شخصيتان عبر جدول زمني ينتقل بين الحاضر والماضي، ماريامار بنت القرية التي نقرأ في مذكراتها ما تكابده نساء القرية من قهر وقمع وتهميش، وقصص أجدادها وأصولها التي تتركها مشتتة بلا انتماء، بين شقاء أمها التي فقدت ثلاثة من بناتها، وقسوة أبيها الذي حكم عليها بالحبس، منبوذة كجدها من كل الأطراف. والصياد الذي يعود للقرية بعد 16 عاماً من زيارته الأولى لها محملاً بهواجسه ومخاوفه ومحنته الشخصية، التي تتمثل بذكريات طفولته، ومعاناة أمه، وقصة قتل أبيه، ومرض أخيه، وحبيبته التي رفضته. يقول الكاتب في مقدمة الرواية: «إن الأحداث بها شيئاً من الحقيقة»، وهذا الخيال المخلوط بالواقع يجعل القارئ يتعايش مع أبطال الرواية وآلامهم ومشكلاتهم والأخطار التي تحدق بهم، ويقف حائرًا مندهشًا أمام مجتمع «كولوماني»، تلك القرية التي تقول عنها ماريامار الشخصية الرئيسة التي تتشاطر مهمة السرد الشاعري والجميل مع صياد الأسود أركانجو بالبرو الذي يبتعث للقرية للقضاء على الأسود التي تُهاجم سكان القرية: «كانت قريتنا مقبرة حيّة، لا يزورها إلا سكانها. نظرتُ إلى البيوت الممتدة عبر الوادي. البيوت الحائلة ألوانها، المفعمة بالكآبة، وكأنها نادمة لأنها أُقيمت فوق الأرض. مسكينة كولوماني، وهي التي لم تشتهِ أن تكون قرية يومًا» رواية مُمتعة ومشوقة، أحداثها ساحرة لما تحمله من الأفكار والرمزيات المدهشة، بترجمة أكثر من رائعة من «مارك جمال».