بعض المدن لها حكايا خاصة، وروائح المطر التي تنبعث من طينها ليست إلا أنفاس أهلها الطيبين المخلصين، جلست ليلة الأمس في مقاعد صالات الانتظار في إحدى المدن البعيدة عن مدينتي، حينها اتخذت مقعدا قصيا وأسندت ظهري على الكرسي بتنهيدة عريضة، بقيت أنتظر موعد رحلتي، ليالي يناير الشتوية كئيبة ران عليها السكون المخيف، ضجيج المارة يجعلك تتخبط في وحدتك متأملا بوحشة بالغة وجوه المسافرين التي يعلوها التعب، أحاول أن أضيف مشاعر حقيقية لمشهد الكتابة، لكن ماذا عساي أن أقول سوى أن ساعات الانتظار مرت بصعوبة بالغة كأن حشرجة بلغت بأنفاسي حدّ الاختناق، ساعات طويلة ومملة، برودة الجو ترافقها برودة المشاعر، لا شيء جديد يذكر... حنين مجهول لمشهد غامض لا تملك أمامه سوى الصمت، الضباب يغطي المكان ونفحات الهواء الباردة مؤلمة بحجم الألم الذي تركه في قلبي وذهب، تراودني أسئلة كثيرة ولا يعلق في ذهني منها سوى القليل، أطيل النظر في تلك المقاعد وأبحث بين وجوه المسافرين عن وجه آلفه يبدد وحشتي ويؤنس روحي، العابرون لا ملامح لهم ولا أثر وبعض العابرين يحملون بين جنباتهم زخم العاطفة دون أن تعرف لهم اسما أو عنوانا وحتى رقما، أرهقني انتظار هذه الرحلة التي امتدت لأشهر ثم اقتربت بلا موعد يذكر ولا لقاء يُرجى، وبينما أغوص بعمق في متاهات الأفكار وقعر هاويتها الذي لا يتوقف، إذ بصديقتي الأثيرة التي تسكن ذات المدينة، قد بعثت رسالة تخبرني أنها وصلت إلى حيث أكون، فاجأني حضورها، بدد حزني وجمعت شتات رجفة أطرافي بعناقها، كان وجودها يرأب صدعا تفتق في حنايا القلب، لم أكن أنتظرها لكنها كانت حاضرة، لم أعطها موعدا لكنها التزمت بصداقتها، لم أخبرها أني أشعر بالوحدة إلا أنها جعلتني أشعر بالامتلاء، الاكتفاء والأمان بقربها، وجها لوجه يمضي الوقت بأنس النديم إننا نكتفي الليلة بنا! تأخر الوقت وهي ما تزال جالسة جواري، لكن الوقت أزف ثم غادرت، وإذ بذلك الشعور البائس يختلجني مرة أخرى، جمرة وداعها وصقيع الانتظار، وأنا أتقلب بين الجمرتين، ما إن لبثت حتى مسح الله على قلبي مرة أخرى، لتكون هذه المرة مكالمة وردتني مختلفة، فيها طمأنينة تخصف من ورق الألفة، انطوى مع هذه المكالمة حس الحضور الطاغي، كان صوت الحياة الذي يبدد العتمة، حضور واهتمام بدد ثقل الانتظار، لم أعرف تلك الليلة شعور الوحدة أو الانحباس داخل الذكريات السحيقة التي جعلتني أجلس هنا أنتظره بينما هو هناك في الضفة الأخرى من المدينة يتابع خلجات حزن المشهد دون اكتراث! كل ذلك جعلني حينها أدرك أننا حين نتأرجح في باندول انتظار لا يتوقف، وننغمس في هاجس يصب القلق في قلوبنا، ليس هناك ما هو أكثر إنسانية من أن ننقذ مشاعر شخص تنطحن تحت رحى التوجس والخوف، أحسنوا للآخرين بعدم جعلهم ينتظرون كثيرا وطويلا، اقطعوا عليهم ما استطعتم انحباسهم تحت وطأة الانتظار ولا يكن وعدكم ممتدًا نحو ظلال عروقها السراب، الانتظار مؤلم ينخر في الرأس أسئلة لا تهدأ، وحتى الأجوبة تنهش أرواحنا بلا جدوى، مخذولين في الوقت نفسه لأن أحدا لا يعرف وجع الانتظار، وأن الساعات التي نقضيها في انتظار غائب لا يعود أو رجاء شفاء عزيز مريض لا يُرجى برؤه، أو مشاعر شوق عميق لحبيب ينتزع قلوبنا من أقاصي الحنين لرؤيته، أو ربما انتظار قرارات مصيرية في حياتنا مرهونة بشخص لا يستحقنا، هي كلها ليست سوى انتظارات من عمرنا مسروقة، منهوبة بقلق يرتد أثره على تجاعيد وجوهنا، ضياع يلتهم أوقاتنا وتفكير يجعلنا نخسر أنفسنا، الانتظار اللامجدي هو المتاهة بين العذاب والوهم! قدر ومصير ونحن ما بينهما نقطع رحلة المسافات، من شاء منكم فليختصر على الآخرين شقاء رحلته ولا يقطع لهم وعودا لا يستطيع الوفاء بها، بكل شجاعة حاول ألا تجعل أحدا ينتظرك وأنت تملك الجواب لحيرته، لا تضلل روحه بضوءٍ نوره منطفئ، لنكن صادقين مع الآخرين ولا نجعلهم ينسحقون تحت رحى الانتظار وعبثية الأحلام والآمال على أمل اللقاء الذي يدفعهم إلى التشظي، سوف تبقى ندبة في أرواحهم للأبد بينما أنت تمضي وهم لا يستطيعون المضي قدما، يستطيل العذاب وربما يستديم، في محطات الحياة ننطحن بين صخرتي رحى الانتظار وأمامنا رحلة طويلة، إننا ننتظر المال، الحب، الزواج وربما الانفصال، وننسى أن بينهما ينتظرنا الموت! في تمام الساعة الواحدة والنصف فجرا.. إنه النداء الأخير على المسافرين الاستعداد لركوب الطائرة، وقبل أن تغلق بوابة المغادرين، التفت بهدوء وألقيت نظرة حانية أخيرة لمقعد الانتظار، بنبرة الغفران والوداع المر والتسامح لن أعود هنا مرة أخرى، لن أجعل أحدا ينتظرني أو ربما لن أنتظر شيئا للأبد!