لأول مرة تقلع بي الطائرة وليس ثمة من يجلس في الجوار هنا, ولا خلف, ولا أبعد.. ثمة مسافر وحيد على بعدٍ مشغولٌ بصحيفته, يبدو قد استغرقته بما فيها, مع أن ليس ثمة ما يمنح الطريق من متعة في الكلام الكثير الذي يثرثر به أغلب من يستلقي بهذره على أعمدتها..!! تلك المتعة التي كانت تخاتلنا بها ما كانت تحمله صحف الذي مضى بعيداً عن الآن كلما أشرق الصبح, ونهضنا نتلهف الصحف, ورائحة أحبارها تمرق لأنوفنا, تمتزج بسرورنا, تصنع متعتنا, وتمنحنا مفاتيح للأبواب المغلقة في الطريق!!.. الطائرة تنهب الفضاء, أزيزها له وقع يختلف بحجم انتظار ما بعد رسوِّها, واطمئنانها على الأرض.. برودة تنبعث من أعلى, وبالكاد تنفرج السحب عن وجه الأرض.. ترى كم تكلفة مقاعدها الشاغرة, وما الذي أخَّر المسافرين؟ أتلهّى بالأسئلة.. يوم إجازة, والإشارة للسؤال فارغة بفراغ هذه الدوامة لصوت الهواء يلف بدولابيْ الجناحين, ربما بسرعة تفوق ما تحمله المخيلة في هذه اللحظة!.. ذلك السَّاجي بين مشارط الجراحين, وخلف الباب على طول الممر جوار حجرة العملية بالتأكيد قلوبهم ترجف, وألسنتهم تلهج .. سبقني لداخلها, ولم ينتظر. وأنا بين الأرض والسماء في حجرة أخرى ليست من اسمنت, بل من معدن.. لكنني خارجها.. جزءٌ مني معهم, والبقية تتعلق بركن رب العرش .. أصلُ إليه يا رب, ويكونُ في سلام..