لاشك أن منهج الاعتدالية أو الوسطية في الأمور الحياتية مطلب رباني، وسلوك إنساني ومظهر حضاري للمجتمع عامة، وهو يعني التركيز على القيم الأخلاقية التي عني بها الإسلام، والموازنة بين الثوابت الشرعية ومتغيرات العصر، وفهم التكاليف والأعمال فهماً (متوازناً) يضعها في مرتبتها الشرعية، كما أنها تؤدي إلى أداء حقوق الله سبحانه، وحقوق الناس بما يظهر مبدأ العدل والتكامل والانسجام والتعاون وروح الإخاء بينهم.. فلا تقصير في الواجب، ولا هدر لحق.. ولا ظلم ولا صراع ولا تناحر ولا إفراط ولا شذوذ ولا تناقض في السلوك والممارسات الاجتماعية بين الناس! وقد أرشد القرآن الكريم.. في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143)سورة البقرة، إلى ظاهرة التوازن في الأشياء والأعمال والممارسات القائمة على وعي وجداني وقوة العزيمة والتمسك بالحق والتزام العمل الصالح الذي هو(سمة المجتمع المتحضر). والوسطية في البناء الاجتماعي الإسلامي لا تعني إلغاء التعددية في النشاط الاجتماعي.. بل تعني وزن الأشياء بالميزان الصحيح في مجموعها وحتى في السلوكيات الفردية لا تغيب الوسطية التي تمنع المبالغة في كل الأمور، وهذا المنهج القويم -ومن منظور علم الاجتماع الإسلامي- يقوم على مبادئ الاعتدال والانسجام والسماحة والرحمة والتروي والعدل والحكمة.. ومجافاة التطرف والغلو والإقصائية والأفكار المنحرفة التي تخالف قواعد الضبط الاجتماعي والأخلاقي والديني.. وهي أفضل طريق لإرساء دعائم الاستقرار وتحقيق السلم الاجتماعي. والأكيد أن المنهج المحمدي (المتزن) كمفهوم وظيفي وبنائي في التفكير والقيم والسلوك الإنساني في قالبه الحضاري يبرز أو يتجلى دوره في الحياة البشرية، إنه الطريق المفضي إلى الكمال الإنساني والرقي البشري.. وإلى أيضاً بناء المجتمع (تربوياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً) من دون إفراط أو تفريط وفق معادلة الوسطية التي تشكل صمام أمان للمجتمع ضد أمراض التطرف والتكفير والغلو في الدين، أو التعصب في الأفكار والممارسات المناهضة لقواعد الضبط الاجتماعي التي متى ما اتسعت دائرتها المظلمة في أي مجتمع وسقط عمود الاعتدالية.. يتحول المجتمع -كيميائياً- إلى بيئة خصبة للأمراض الاجتماعية الخطيرة والمثالب الفكرية الفتاكة، والصراعات النفسية المعقدة!! في تاريخ الفكر الاجتماعي اعتبر مؤسس المدينة الفاضلة (أفلاطون) أن منهج الاعتدال والتروي والحصافة من القيم الأساسية العليا وثبتها على رأس الفضائل التربوية.. ولذلك من الأهمية بمكان أن نؤسس ونعمق مفهوم (الوسطية) ومنطلقاتها الأخلاقية في رحاب مجتمعنا السعودي، وهذا الاتجاه القيمي في قالبه الحضاري لا يمكن أن يتحقق دون أن يكون هناك مبادرات تنويرية واعية من مؤسسات التنشئة الاجتماعية.. وهي (المؤسسات الدينية) من خلال المنابرالإعلامية، أو خُطب الجمعة، خصوصاً أن هناك دراسة متخصصة أظهرت معطياتها العلمية أن تأثير (خُطبة الجمعة) في إيصال المضمون والتوجيه والتوعية أكثر من تأثير الإذاعة والتلفاز.! كذلك دور المؤسسات التعليمية (الجامعات، المدارس، المعاهد) في ترسيخ قيم الاعتدالية بوجود الأساتذة والمعلمين القدوة (سلوكياً وفكرياً وعقائدياً).. وإتاحة الفرصة للطلاب للتعبير عما يجول في نفوسهم ووجدانهم والإجابة عن استفساراتهم في المسائل الفقهية والدينية وإبراز الوجه الحقيقي للإسلام الذي يتسم بالسماحة والاعتدالية باستخدام أسلوب التربية الحوارية والفكر المتزن في معالجة آفة الغلو والتطرف والتعصب والعنف والإلغائية، كما أن المؤسسات الإعلامية (التقليدية والرقمية) ومن منطلق نظرية الغرس الثقافي الإعلامي.. لها دور مفصلي في رفع سقف (الوعي) المجتمعي ونشر ثقافة الوسيطة ونبذ لوثة التطرف والإقصاء والسلوك الضلالي.. عبر رسالتها المهنية السامية وتوجّهاته المؤثرة في العقل والخيال والعاطفة والسلوك والقيم.. كما أن الطبقة المثقفة ونشاطها الفكري الإثرائي في أنديتها الأدبية والثقافية لها حراك (بنيوي) توعوي في تعزيز قيم الوسطية في المجتمع كمنهج حياة، والنهوض بقالب التنوير الثقافي.. بما يسهم في نشر مفهوم الاعتدالية وإشاعة لغة الحوار الواعي. * باحث اجتماعي