يمثل العمل الفني المرآة التي تعكس حال الفنان وفكره ووطنه وثقافته ومجتمعه الذي يستمد منه مفرداته وعناصره البصرية، لتحمل تلك الأعمال داخل طياتها شحنات جمالية وتعبيرية تثري بصريا وتحاكي الخيال وتلامس الروح وتخاطب الفكر وتحدث أثر التغيير، فالعلاقة بين الفنان وقضايا مجتمعه تحتاج إلى وسيط يتحدث عن هذه العلاقة، ليس مجرد تقرير أو تعليق إنما دراسات علمية وقراءات نقدية للأعمال البصرية تكون بمثابة النافذة على دور الفنان في اختيار موضوعاته وإيصالها للمتذوق وللجمهور العام. «محمد الرصيص» المعاني الكامنة والاستقبال العاطفي للنصوص الترميزية الفنان «محمد الرصيص» أحد الفاعلين الراديكاليين في الحراك التعبيري، والمشهد البصري السعودي المتصاعد، تمسك «الرصيص» بمفردات شخصية مشحونة مفعمة بالنبض الحيوي، معبأة بانفعالات ومعاني كامنة تذخر بالاقتضاب الشاعري التلقائي، المتوازي مع التفسيرات المتجسدة باكتمال تفصيلاتها، مستعرضا كل خبراته كمصور ومصمم في رؤية وأداء متمايز، لتظهر عناصره ذات طبيعة غير مألوفة أو معتادة لبصرية ووجدان المتلقي وعادات التلقي لديه، واندفعت عبر صياغات حداثية بما يحقق رؤية بصرية جاذبة تشحذ انتباه وتفاعل المتلقي وتعلي قيم العمل وأبعاده التصميمية والمفاهيمية، من خلال هيئات متنوعة وصياغات راديكالية ووعي في الأداء بخبرة ورؤية فنية محلقة، وصدق وتميز تفردي، كاشفا من خلالها عن عوالم أثيرية خاصة، تتشكل عبر علامات وإشارات شكلانية وحوارات هامسة، عبر خطوط وبقع لونية، والتوازن الإيقاعي الفاعل، لتحمل هذه الأعمال بداخلها مرونة بصرية تعج بالحلول والمعالجات المتمايزة والخاصة لفنان يجمع ما بين التعبير والتشكيل، ويحقق هيئات بها حلول وتقنيات تكتسي بقيم فنية وجمالية وتعبيرية تحفز مخيله المتلقي، بما يطفي نبضا من العاطفة الأدائية واستثمار الفراغ لتعضيد حساب طاقة المساحات والألوان والحجوم والاتجاهات، لتحقيق التآلف النغمي المطلوب لتلك المنظومة والمقطوعة الهارمونية. وصاغ «الرصيص» تفكيره البصري على أسطح أعماله، وفق منهجية فلسفية ترتكل لخصوصية دشنت أسسها القاعدية على رسم مسارات للحركة البصرية للمتلقي داخل نقاط مرورية محددة في العمل حسب أولويات فنية ومفاهيمية، حيث فتح الفنان عددا من النوافذ التي تحدد مناطق مخصوصة، بعضها مغلق حتى يحرك المشاهد لمحاولة الاقتراب منه وفتحه لفك شفرة ذلك الغامض الذي يستقر خلفها، والبعض الآخر تم فتحه كلية ليفصح عن تلك الفراغات الكونية الرحيبة وموسيقاها الهامسة، وفي بعض الأعمال تم مواربة هذه النوافذ حتى لا تبوح بكل ما تنطوي عليه عوالمها الأثيرية، وتجعل ذلك المشاهد الواقف أمامها في حركة مستمرة وتجاوب تفاعلي مع عناصر رسالة وفكرة العمل، متخذاً أوضاعاً عديدة وزوايا رؤية مختلفة يميناً ويساراً أملاً في مشاهدة المزيد من تلك العوالم والتلصص عليها، ورغبة في فك الكود الترميزي والتلخيصي الذي تنطوي عليه، وارتكل «الرصيص» إلى عدد من المعالجات الفكرية المبتكرة، ومنهجية فكرية حداثية تعلي المضامين الفلسفية والتعبيرية في العمل، وتسطير رسائل أدبية مشفرة بمعاني ودلالات كامنة، والحنكة في معالجة السطوح المفعمة بالحكي والعوالم السحرية أسطورية الطابع، بتلميحاتها الشاعرية، والبهجة الفياضة في بيئات أسطورية تدعم الفعل الحركي الدينامي، وتختزل المضامين بصورة بليغة في هدوء وانسيابية، وتصدير الهوية التي تدلل على الذاتية لعناصر بيئته برؤية منظورية خاصة سعى إليها الفنان وفق أطروحات انطلقت من مخيلته الإبداعية، واعتماده على الموروث الشعبي بتكوينات رصينة تتسم بليونه الخط وعبق الأثر ومتانة كتله النابضة الحيوية. ومن أبرز أعماله الفنية في بداياته «انتظار النهاية» و»الصقر والمغزل» في العام 1985م وكذلك مجموعته الفنية «عناصر معمارية» في العام 1982م، حيث تنوعت مراحله الفنية ما بين أسلوبيات فكرية تدلل على مخيلة إبداعية للفنان، وحداثة الطرح، وطزاجة المنتج، فاستعرضت مجموعات مستلهمة من أشكال وتكوينات معمارية ذات تجريد تلخيصي لبحث جماليات العمارة التقليدية بوسط المملكة، وكذلك أبحاثه التأملية التحليلية التي انطلقت من استلهام الحياة الشعبية في المملكة وأشكالها، من شخوص وعاداتهم وطرق التفاعل فيما بينهم، في لحظات الفرح والمرح والاندهاش والثقة والتركيز، منفردين وفي جماعات مع أدوات موسيقية وزخارف تراثيه خاصة تنساب برقة وعذوبة، وصياغة الشخوص بقدرة لافتة على التمكن ومهارة في التنغيم البصري، بمنهجية تعلي الأجواء الشاعرية بالمشهد البصري لديه، وعززته طاقة الفعل الحركي. لقد أخذ من العمارة والشخوص عناصر أثيرية عززت معظم موضوعاته، ودعمها باللون وشداته المتناوعة في إضفاء الحس المرهف النابض الحيوي، كنوع من أنسنة العناصر لتصير حيوية فاعلة وبحس تجريدي تبسيطي تلخيصي. هذا إلى جانب بحوثه حول قضايا الأرقام والكتابات وعلاقتها بحياة الشخوص وإيماءاتها، وتصوير الانفعالات المختلفة على وجوه الشخصيات، والأضواء والظلال المعبرة عن الجوانب العاطفية، لتتسم أعماله بتجسيد مشاهد تذكارية لخلفية ريفية ظهرت في معظم أعماله، في قالب يسوده الانسجام والترابط، ويدعو إلى إعلاء قيمة الخط واللون وترويض مجموعاته بما يشحذ الخطابات البصرية. تكثيف العاطفة وتمثيل المكنونات الروحية لدى «عبدالرحمن السليمان» عبر مزاوجة أعماله ما بين الفنتازيا التراثية وذروة الشاعرية الحالمة وهو ما يتلمسه المتلقي بسهولة ويسر، لتشكل الخطابات البصرية للفنان «عبدالرحمن السليمان» قالبا فنيا وتكوينات حداثية محفزة وشاحذا لقيم مضافة داخل المشهد البصري المعاصر، ليضع الفنان نفسه كمحرك ثقافي وفنان وناقد، وأمام حالة اكتشاف جديدة تفصح عنها أعماله والتي تتمايز بذكاء متوقد في استخدام وسائط التعبير، والجاذبية في صياغة العناصر والتكوين وتراتيب مخططات اللون، لأعمال فنية متنوعة تعج بالخيال الديناميكي والطابع المميز المغلف بأسلوبية فريدة، لصالح الديمومة الفنية والتي لا تتشابه فيها العناصر والأشياء، وتتنوع الحلول والمعالجات والتسطير البصري، الذي لا يعيد الفنان إنتاج نفسه بشكل تقليدي رتيب ينبثق من التبعية والنمطية الفنية. ونحو نزعة اختزال العناصر والألوان والاحتراف المكين لتوليد أقصى درجات العاطفة وطاقة التعبير، والبحث عن طرق تحليلية خاصة، واستدراج المتلقي للتفاعل البصري مع العمل، امتلك «السليمان» طلاقة مفاهيمية نحو السرد الحكائي لقضاياه الفنية بأسلوبية أثيرية محلقة، عبر دراساته التحليلية للطبيعة وقوانينها، وقيم التراث النابض لتدشين اتجاه عضوي مغلف بتجريدية شمولية مكثفة تتعايش نابضة فاعلة، تؤثر بحيوية في إعلاء طرق التلقي والاستقبال الديناميكي للخطابات والأطروحات الفنية، والذي يعكس التوجه الرومانسي للفنان، ويكشف جوهر الظواهر والعناصر، لتبادل الأسطح والأشكال فيما بينها في تلقائية وعفوية تنساب في جراب الزمن، عبر قدرته على اختزال التفاصيل مع التمكن من التقنية والتركيب والبناء وأسلوبيات الصياغة. وتطويع الإضاءات وإسقاطاتها اللونية لتحدث نوعاً من التمويهات والخداعيات البصرية للعناصر البنائية المرسومة. وتفضيل كل من الألوان والزخارف والبقع اللونية المضيئة والمباغتة والتي تقتحم مناطق مخصوصة داخل العمل، والاعتماد على البناء التصميمي الموجز، الذي يسرد الكثير من المعاني والانفعالات التعبيرية. وبعيدا عن إرباك المشاهد، ونحو ترسيخ مفاهيمية العمل حية داخل وعي المتلقي وضمان التأثير ممتد المفعول لاستثارة الجهود الفكرية، والولع بالدقة والتركيب المنظم والقدرة الحداثية على ترجمة الأفكار المفاهيمية، وعبر التحليق بمخيلته الإبداعية بصحبه الخط والمساحة والكتلة والحجوم الحيوية النابضة، دفع الطموح والشغف الشخصي لدى «السليمان» في عرض أطروحات وخطابات بصرية بما يحقق رغبته في تصدير ذاته والدفع بالصدق كشخصيته، عبر موضوعات أثيرية حالمة حيوية نابضة محرضة شاحذة على الرسم والتخيل التجريدي، وتسطير نهج دؤوب راديكالي يجسد أفكاره ويصيغ الموضوعات عبر مراوغة في استدعاء أفكار طليعية نابضة، تعمل على تفعيل حواس المشاهد، وتعزيز تأثيرية المشهد التي تزيد من قنوات التفاعل لدى المتلقي. ونحو المحتوى الفكري الذي يعكس طابعاً تأملياً صوفياً، طرح «السليماني» رؤى حداثية حيوية مفعمة بالرومانسية والعاطفة ذات الصبغة الموسيقية، التي تفصح عن تجاور الأضداد وتداخلها، وتنبض بالحكي التي تمثل ذكريات حياتية، تاركا مساحة للجمهور للذوبان التفاعلي مع الخطوط الانفعالية المتواترة والتهشيرات المحتشدة بالطاقة والكتل اللينة المفعمة بالطاقة، لتدلل على قدرته وتمكنه التشكيلي في صياغة أعماله ضمن دعائم تغذيته البصرية الرصينة المدشنة على الاستلهام من التراث والإفادة من روافده، في صورة حداثية ملهمة، بإضافة المساحات اللونية، والإيقاعات الخطية إلى نسيجها بغرض تكثيف قيمتها التعبيرية، وتعظيم رسالتها البصرية، عبر معايشة حالة تصوف تأملي تولد عبرها مكنونات مكنوناته الداخلية نحو تعزيز التجاوب التعاطفي مع عوالم أثيرية صيغت بحميمية وصدق في إعلاء للعناصر والكتل وفضاءاتها. *الأستاذ المساعد بقسم الفنون البصرية - جامعة أم القرى عبدالرحمن السليمان محمد الرصيص.. الفراغ وطاقة المساحات والألوان محمد الرصيص.. صياغة متنوعة ووعي عبدالرحمن السليمان رؤى حيوية مفعمة بالعاطفة عبدالرحمن السليمان.. قوالب فنية حديثة