مبتسماً، مسنداً ظهره للجدار، في الناحية اليمنى من مسجد والده، الشيخ فرج العمران، والذي تعقدُ فيه الصلاة بإمامة أخيه الشيخ حسين؛ تجده بغترته البيضاء، التي هي شيءٌ من نقاء سريرة لا تحمل الضغينة أو الحقد، ونحن الأطفال الصغار نستمع لأحاديثه الخافتة، متلصصين من الفتحات الضيقة ناحية الدرج من خلفه، والذي كنا نتسابق لنجد لنا موطن قدم عليه، رغم سعة المكان، إلا أننا اعتدنا على الجلوس هناك، على الدرج الذي يلي الباب الخشبي الأيمن للمسجد. كأن كل شيء منظم بشكل تلقائي، دون تنسيق مسبق، في بقعة لم تكن مجرد جامع للصلاة وحضور دروس الأحكام الفقهية، والسيرة التاريخية، والدرس العقائدي الأسبوعي للعلامة العمران، وإنما شكل المسجد لنا فضاء تلقينا فيه المعارف الأولى، التجارب الأولى، العلاقات الاجتماعية الأولى، النقاشات الأولى، وحتى التمرد الأول في مرحلة الدراسة الثانوية. باختصارٍ، كان مختبراً مصغراً لحيوات عاقرناها بسعادة وفرح وحبور، دائماً ما أحنُ لها ولسكينتها، ونقاء غديرها الذي كنا ننهلُ منه. رغم وجود درج مشابه، بل، وأكبر في الجهة اليسرى، لم نكن ندلف له، بل تمسكنا بأن نكون من أصحاب اليمين! هنالك أيضاً، وبعد أن تدخل بقلبك للمسجد من الباب الأيسر، تبصر عيناك مجموعة رجال الأعمال والعقاريين، الذين بينهم عمدة من تجار محافظة القطيف، شرق السعودية، يتحلقون معا في دائرة مصغرة، عند تلك الإسطوانة: عبدالكريم اليتيم، منصور الشماسي وأخوه الحاج علي، سعيد المحروس، منصور الخنيزي، جواد الزاير.. وسواهم ممن أنستني الأيام رسومهم، لكن أصواتهم وأحاديثهم قبل وعقب أن يرفع أبو نادر الأذان، تبقى في ذاكرتنا، نحن الصغار -حينها- ممن تبهرنا التفاصيل، ونتقن ملاحقتها. لم يكن عمران واحداً من المتقدمين في الصفوف الأولى، بل كان يصلي في آخر صف يلتحق به. رغم أنه كان ثقة أخيه، وله شعبية بين الناس كونه ابن رمز ديني واجتماعي من شخصيات القطيف الشيخ فرج العمران، صاحب كتاب "الأزهار الأرجية في المآثر الفرجية"، إلا أن أبا جمالٍ كان ميالاً للهدوء، بعيداً عن الأضواء والمناكفة والضجيج. عندما يرخي المساء جدائله، ويعود الشيخ العمران إلى منزله، يخرج إلى المجلس الصغير في بيت أخيه عمران، حيث يستقبل الزوار لنحو ساعتين أو أكثر قليلاً. في مجلس الشيخ، الذي هو مجلس أبي جمالٍ، كانت أقداح الشاي تدور بين الجالسين، وكنا نراقب الصور الكثيرة الصغيرة والكبيرة التي وضعت بالمئات، وفاق عددها آلاف الصور على مدار سنوات، في براويز منوعة، متراصة إلى جانب بعضها البعض. كان الناس يسألون شيخهم في المسائل الشرعية، أو حول بعض الأحاديث أو الإشكالات العقائدية، والبعض يحيله لأخيه من أجل تدوين الحقوق الشرعية، وما أن تأتي العاشرة، إلا ويعود العلامة العمران إلى منزله، ويخرج الناس مباشرة، لنبقى نحن، مجموعة من الشباب مع عمران، نتابع معه الأحاديث. كان أبو جمال يتنقل من إطار لآخر، يروي لنا عن الشخصيات التي وضع صورها بعناية، وانتخبها بحيث تجد كل عالم ومن هو في منزلته متجاورين، وذاكرته الشفافة تسرد القصة تلو القصة، والمعلومة التي ترفد الأخرى، عن علماء من جنسيات ومشارب عدة، بل، وحقب متنوعة. هذه السيرة التأريخية، وسيرة علماء محافظة القطيف، التي تكونت لديَّ، وأيضاً علاقات بيوتات المرجعيات الدينية ببعضها البعض، كان لأبي جمال نصيب في تكوينها، بما قدمه لي ولثلة من الصحب من تأريخ متشعب، إلا أنه وبلغة بسيطة وسهلة كان يسكبه في الأقداح. لم يعد لعمرانَ من رسمٍ الآن، والرجل الذي لم أرهُ منذ سنوات عدة، لن نمسك بعد اليوم بابتسامته، إلا أنه حفر في ذاكرتنا سيرة نيرة، وكان جزءاً لا يتجزأ من حياتنا التي ربما لم نُحسنِ الحفاظ عليها!