بوصلة العالم صوب الرياض.. مقاربات وحلول للتحديات الجيو-استراتيجية والأمنية ازدهرت الشراكة الصينية السعودية بعيدا منذ بداية التبادل والاعتراف الدبلوماسي بين البلدين عام 1990، دعماً السلام في المنطقة وتعزيزا للسلم العالمي حتى وصلت اليوم كتحالف رصين في المحيط العالمي. ومجدداً تقود المملكة دفة التحولات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، فبعد أربعة أشهر من القمم السعودية والخليجية والعربية - الأمريكية التي استضافتها في جدة شهر يوليو الماضي، تستضيف الرياض ثلاث قمم، قمة سعودية - صينية، وقمة خليجية - صينية، وقمة عربية - صينية، في دلالة مباشرة على أن مركز الثقل العالمي، ومحور الارتكاز الدولي انتقلا إلى العاصمة السعودية الرياض، التي تدير بحنكة قيادتها وحكمتهم المعهودة التغيرات الجيو-سياسية، والتحولات الجيو-ستراتيجية في موازين القوى العالمية، بعد أن أصبحت المملكة لاعباً أساسياً وعنصراً رئيساً لا تستطيع أية قوى تجاهلها أو الاستغناء عنها في صناعة القرار الدولي. التحرك الأضخم ويقود الرئيس الصيني شي التحرك الأضخم في تاريخ الصين حيث يزور المملكة بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وتتجه بوصلة العالم إلى الرياض، حيث تنعقد خلال زيارة الرئيس الصيني، ثلاث قمم بحضور أكثر من 30 من رئيس دولة خليجية وعربية ومنظمات دولية، ويراقب العالم هذه القمم الثلاث ما يعكس أهمية انعقادها في المملكة، وما تحظى به من اهتمام عربي وإقليمي ودولي. وتعكس زيارة الرئيس الصيني الحالية للمملكة حرص قيادتي البلدين على تعزيز العلاقات، وشراكتهما الاستراتيجية واستثمار إمكاناتهما السياسية والاقتصادية في خدمة مصالحهما المشتركة. جولة المباحثات الرسمية على المستوى الثنائي أعدت المملكة برنامجا ضخما لزيارة الرئيس الصيني كضيف دولة، وسيعقد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان جولة رسمية من المحادثات مع الرئيس الصيني اليوم الخميس بحضور سمو ولي العهد. اتفاقيات مليارية وسيشهد سمو ولي العهد والرئيس الصيني التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم الثنائية. كما ستوقع على هامش القمة السعودية الصينية على أكثر من 20 اتفاقية أولية بقيمة تتجاوز 110 مليار ريال. التوقيع على الشراكة وخطة المواءمة إضافة إلى توقيع وثيقة الشراكة الاستراتيجية بين المملكة والصين، وخطة المواءمة بين رؤية المملكة 2030، ومبادرة الحزام والطريق. جائزة محمد بن سلمان للتعاون الثقافي كما سيُعلن خلال الزيارة عن إطلاق جائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بين السعودية والصين. ويرى مطّلعون في أروقة صناعة القرار السعودي أنَّ لدى المملكة قناعة بضرورة الانتقال من مرحلة وضع المصالح السعودية كلّها في السلة الغربية وحتمية تنويع العلاقات، والانتقال من مرحلة ربط المصالح بالقوى الغربية مع استمرار الشراكات معها نظرا إلى المتغيرات العالمية التي لم تعد فيها القوى الغربية اللاعب الأوحد والأقوى في الساحة الدولية. مبادرة الحزام والطريق ويؤكد محللون صينيون من جانبهم أن المفتاح الاستراتيجية بالنسبة إلى المملكة هو التحول إلى بوابة رئيسة ضمن مبادرة "الحزام والطريق". وهذا ما قاله ولي العهد السعودي خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ مؤخرا، عندما أكد أن المملكة مستعدة لتعزيز الترابط الاستراتيجي بين رؤية المملكة 2030، الهادفة إلى تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، ومبادرة "الحزام والطريق". الممرات المائية أما على المستوى الجيوسياسي الخليجي والعربي فتمثل منطقة البحر الأحمر، أحد أهم الممرات والمضايق الاستراتيجية للمشروع الصيني (الحزام والطريق)، ما دفع المملكة إلى تدشين 3 مشاريع اقتصادية ضخمة، وعلى رأسها مدينة نيوم ومدينة البحر الأحمر، ناهيك بإنشاء مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن. مقاربات سياسية وتزايدت أهمية الصين في منطقة الشرق الأوسط. تبدو بكين نشطة للغاية في مقاربتها للتحديات السياسية والأمنية المحلية بالمنطقة، وتسعى إلى زيادة مشاركتها السياسية والثقافية مع المنطقة لتترافق مع نشاطها الاقتصادي المتنامي هناك. ويوضح مراقبون خليجيون أن دبلوماسية التوجه نحو الشرق السعودية وتحديدا الصين ليس مشروعاً خارج حدود الشراكات العالمية، بل سياسة في اطار تنوع العلاقات بحسب المصالح الاستراتيجية العليا، وستظل العلاقات مع الغرب حاضرة وفق المصالح العليا ذاتها، كون الشراكة المميزة مع الصين، ستعزز نفوذ السعودية وأهميتها الاستراتيجية إقليمياً ودولياً، لما تمثله الصين من دور محوري في التوازن العالمي، كونها عضوة في الدول الخمسة الدائمة الأعضاء في مجلس الامن وتملك حق النقض "الفيتو" وهي القوة العالمية الصاعدة. تعدد البدائل والتحالفات ويؤكد الخبراء أن التقارب السعودي على الصين ليس استثناء، وإنما يعبر عن استراتيجية تبنتها السعودية تهدف من خلالها التوجه شرقاً باتجاه الصين، والشرق والآسيوي مع التوازن في العلاقات مع الغرب، ولكن أخذت الصين النصيب الأكبر؛ نظراً للإمكانيات والمكانة التي تتمتع بها (الصين) وتعد القوة الاقتصادية الثانية في العالم، وتوازنها سياسيا ورفضها سياسة الإملاءات والتدخلات والهيمنة كما تهدف السعودية بالتنسيق مع الصين لإحلال الأمن والسلام في المنطقة وفق قرارات الشرعية والمرجعيات الدولية التي ظلت مغلقة في ادراج الاممالمتحدة بسبب تجاذبات القوى الكبرى. سوق متعطشة للنفط ويؤمن الخبراء أن الاقتصاد الصيني اقتصاد متعاظم، ومن أسرع اقتصادات العالم نمواً، ويحتاج إلى النفط ومصادر الطاقة بشكل عام، وفي الوقت الذي تتراجع فيه طلبات الاقتصاد الأمريكي له؛ نتيجة اعتماده على النفط الصخري المحلي، تزداد الحاجة المتبادلة إلى النفط وتسويقه لكل من الصين والسعودية. واحتفظت المملكة بصدارة إمدادات النفط إلى الصين في العام 2021، إذ ارتفعت الواردات الصينية من المملكة بنسبة 3.1٪، مقارنة ب2020 وزادت حصتها إلى 17٪ من إجمالي الواردات، وذلك وفقاً لبيانات الجمارك الصينية. الاعتماد على النفط وتعتمد الصين بشكل كبير على نفط الشرق الأوسط؛ لذا أصبح استقرار المنطقة يشكِّل الهاجس الأكبر لها، لكنها التزمت في السابق بعدم التدخل في النزاعات هناك. ومع زيادة الأهمية الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة للصين بدأت في تغيير مقاربتها نحو قضايا المنطقة وخاصة القضية السورية. دولة مركزية رائدة ويؤكد خبراء عرب ان دوافع الصين لتعظيم الشراكة مع المملكة لدورها الرائد في صناعة القرار العربي والإسلامي. وتنظر الصين إلى المملكة على أنها دولة مركزية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي وسيضفي التعاون معها مشروعية على سياسة الصين الخارجية مع الدول العربية والإسلامية، ويعزز مكانتها الدولية في علاقاتها وثقلها في موازين القوى الدولية. موقع استراتيجي ومن جهة أخرى، يرى صناع القرار الصيني أن المملكة وبحكم الموقع الجغرافي وإمكانياتها النفطية وممراتها البحرية الاستراتيجية وقوتها الاستثمارية الصاعدة، فإن الصين تحرص على إيلاء السعودية اهتماماً خاصاً في استراتيجيتها خصوصا، وما يستلزمه مشروعها الاستراتيجي (طريق الحرير) من تعزيز وجودها في المنطقة العربية على المدى المتوسط والبعيد. وثمة مقاربات متعددة ومتبادلة بين السعودية والصين تدفعهما لتطوير علاقاتهما الثنائية في أكثر من مجال، تمكن الدولتين من تعدد خياراتهما وحلفائهما، والتحرر من إملاءات القوى الكبرى. مرحلة التكتيك الاستراتيجي إن العلاقات السعودية الصينية وصلت لمرحلة التكتيك الاستراتيجي. وتزايدت الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة للصين بشكل خاص والدول الآسيوية بشكل عام بفعل اعتمادها على مصادر الطاقة القادمة من المنطقة، فضلا عن الاستثمار المشترك الذي سينمو بشكل مضطرد في المستقبل أيضًا؛ حيث فتحت الأبواب أمام المستثمرين الصينيين للاستثمار في المملكة والاستفادة من رؤية المملكة 2030 ا في مشاريع تطوير البنية التحتية الكبرى في نيوم وذا لاين، وشدد الخبراء العرب أن الشراكة السعودية الصينية ستجعل بكين تتصرف على نحو أكثر مسؤولية في المنطقة، والتي يمكن صياغتها بعبارة "الشريك المسؤول النزيه والموثوق به في منطقة الشرق الأوسط، على عكس القوى الغربية والتي فقدت مصداقيتها في المنطقة. حليف نزيه وتؤمن القوى العربية أن الصين حليف موثوق على المستوى الجيو-سياسي والجغرافي، كونها تنتهج سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتدعو إلى حل المنازعات بالطرق السلمية، وترفض التدخل في شؤون دول المنطقة. وترى الصين أن الموقع الجغرافي للمملكة يؤهلها لتكون نقطة ارتكاز في مبادرة "طريق واحد، حزام واحد"؛ حيث تسعى الصين إلى لعب دور أكبر في الشرق الأوسط يتوافق مع قوتها الاقتصادية والعسكرية المتنامية. وتولي حكومتي المملكة والصين اهتماماً بالغاً لتعزيز المواءمة بين مبادرة "الحزام والطريق" و"رؤية المملكة 2030"، وتطوير التعاون بين الجانبين، في مجالات مثل: الاقتصاد، والتجارة، والنقل، والبنية التحتية، والطاقة، وكذلك المجالات الناشئة، مثل: تقنية الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والبيانات الكبيرة. كما تساعد مبادرة "الحزام والطريق" في تحقيق أهداف "رؤية المملكة 2030"، من خلال التعاون الاستثماري بين البلدين في العديد من المشروعات الكبرى الطموحة التي أطلقتها المملكة، وتسهم في تنفيذها شركات صينية كبرى، كما تعد مبادرة "طريق الحرير" وسيلة الصين للتأثير في التحولات العالمية، فإبرام شراكات اقتصادية وثقافية بين بكين ودول أخرى يثبّت أقدامها كلاعب رئيسي بدأ يهيمن على الشؤون العالمية. دعم لمبادرة الشرق الأوسط وتدعم الصين مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" التي أطلقها سمو ولي العهد، كما رحبت بانضمام المملكة إلى مبادرة التنمية العالمية التي اقترحها الرئيس الصيني شي جين بينغ، لتوجيه التنمية العالمية نحو مرحلة جديدة من النمو المتوازن والمنسق والشامل لتسريع تنفيذ أجندة العام 2030، وتحقيق تنمية عالمية أكثر قوة واخضراراً وصحة. الوجهة الأولى لصادرات المملكة وفي الجانب التجاري احتلت الصين مركز الشريك التجاري الأول للمملكة لآخر 5 سنوات، إذ كانت الوجهة الأولى لصادرات المملكة ووارداتها الخارجية منذ العام 2018، حيث بلغ حجم التجارة البينية 309 مليار ريال، في العام 2021، بزيادة قدرها 39% عن العام 2020، كما بلغ إجمالي حجم الصادرات السعودية إلى الصين 192 مليار ريال، منها صادرات غير نفطية بقيمة 41 مليار ريال. كما بلغت قيمة الاستثمارات السعودية في الصين 8.6 مليارات ريال وجاءت المملكة في المرتبة 12 في ترتيب الدول المستثمرة في الصين حتى نهاية العام 2019، في المقابل بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في المملكة 29 مليار ريال بنهاية العام 2021. شراكات تجارية وتسعى المملكة إلى بناء شراكة استراتيجية تدعم التجارة والاستثمار مع الجانب الصيني، وتجعل المملكة الشريك الاستراتيجي الأول الموثوق للصين في المنطقة، حيث استحوذت المملكة على أكثر من 20.3٪ من استثمارات الصين في العالم العربي بين العامين 2005 و2020، البالغة 196.9 مليار دولار، إذ جاءت كأكبر الدول العربية استقبالاً للاستثمارات الصينية خلال تلك الفترة بنحو 39.9 مليار دولار. وتم تأسيس صندوق (سعودي-صيني) لدعم الشركات التقنية الناشئة في المملكة برأس مال يقدّر 1.5 مليار ريال سعودي، بهدف الإسهام في دعم منظومة اقتصادية متينة للأعمال الرقمية في المملكة. على مستوى جانب التعاون في المجال النفطي، فإن شركة ينبع أرامكو سينوبك للتكرير (ياسرف) المحدودة، تعد نموذجاً للشراكات الاستثمارية بين المملكة والصين، فهي مشروع مشترك بين شركتي أرامكو السعودية و(سينوبك) الصينية، وتمتلك الشركة مصفاة تحويلية متكاملة، لمعالجة 400 ألف برميل يومياً من الخام العربي الثقيل وتحويلها إلى منتجات يطلبها السوقين السعودي والعالمي. ووقعت المملكة والصين في العام 2012 على مشروع لزيادة التعاون النووي، بهدف تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين في مجال تطوير استخدام الطاقة الذرية للأغراض السلمية، ما يمهد الطريق لتعزيز التعاون العلمي والتكنولوجي والاقتصادي بين البلدين. ويعكس اعلان وزارة الثقافة في العام 2019 عن "جائزة الأمير محمد بن سلمان" للتعاون الثقافي بين المملكة وجمهورية الصين الشعبية حرص المملكة على تعزيز العلاقات الثقافية والعلمية، وتهدف الجائزة إلى ترويج للغة والآداب والفنون العربية والإبداعية في الصين، وتشجيع التفاهم المشترك والتبادل الثقافي ما بين الثقافتين السعودية والصينية، وتخدم الأهداف المشتركة لكل من رؤية المملكة 2030 ومبادرة "الحزام والطريق" الصينية في مجال الثقافة. باختصار.. زيارة الثلاث أيام و3 قمم تاريخية. واتفاقيات ملياريه. المملكة تقود دفة التحولات بامتياز الرياض-بكين، الحزام والطريق" و"رؤية 2030" شراكة العصر.