من أنت؟ سؤال قصير ألقيته على طلابي في قاعة الدراسة الجامعية! طلبت من كل واحد أن يفكر ملياً قبل أن يجيب على السؤال، وتركت لهم حرية الجواب بما يشاؤون بدون تقيد بأي إطار فكري أو منهجية مثلى للحل أو توجيههم إلى نقطة ما، ولقد انحصرت الإجابات في مجملها في جواب محدود وبسيط: أنا فلان ابن فلان! هذا الجواب المتوقع من كل طالب كان بمثابة الشرارة الأولى لطرح العديد من التساؤلات الذهنية العميقة التي تدور حول مفهوم الوعي بالذات! هل تفيد هذه الإجابة انحصار مفهوم الذات لدى هؤلاء الشباب في أسمائهم وأنسابهم؟ هل من الإنصاف أن نتوقع إجابات أكثر تفصيلاً تعكس وعياً عميقاً بالذات من طلاب في هذه المرحلة العمرية؟ هل تحرص مناهج التعليم على أن تكون معرفة الذات ضمن أهدافها المرحلية؟ هل سوف تختلف الإجابة كثيراً إذا طرحنا السؤال نفسه علينا نحن الكبار، أو من نظن أننا أكبر وأكثر إدراكاً ووعياً بذواتنا؟ كم من الوقت والجهد والفكر والبحث والنقاش نستثمره بهدف زيادة وعينا بذواتنا؟ منذ الأزل كان هناك جدال قائم بين الفلاسفة حول مصدر معرفة الأنا فمنهم من يصر على ربطه بالغير ويرى أن الإنسان لا يستطيع معرفة نفسه إلا من خلال الصورة الخارجية التي يراه بها من حوله، أما البعض الآخر فيرى أن معرفة الذات تقتصر على الذات فقط لكن الأصح هو أن معرفتنا بالأنا منوطة بكلا الجانبين حيث تبدأ من المعرفة الداخلية من ذواتنا والتي تكملها المعرفة الخارجية التي نستمدها من الآخرين. وكما يقول الفلاسفة: السؤال الأصعب الذي يمكن أن تسأله لأي شخص هو سؤال (من أنت؟)، فالإجابة عليه تتطلب معرفة الإنسان لنفسه عن قرب معرفة دقيقة ومحددة، وقد قيل إن ثلث مفهوم الفلسفة يهتم فقط بالإجابة على سؤال (من أنت؟)! هو سؤال يبدو للوهلة الأولى أنه سهل مختصر لكنه في حقيقته قد يستغرق وقتا للتفكير ومدادا من التحبير لأن يروي كل شخص ما يجول بخاطره نحو نفسه من تعابير واعتزاز وعلى النقيض من البعض الذين يجيدون جلد الذات والاستمتاع بروح الانهزامية وأسلوب (تكسير المجاديف) حول شخصيتهم بل البعض يحمل كماً كبيراً من الطاقة السلبية تجاه نفسه وتجاه قدراته وإمكانياته، بل هناك من قد يظن أن الحديث بثقة عالية ومتناهية عن نفسه وقدراته هو بمثابة الغرور والتكبر وذلك لعمري إنه من الفهم السقيم المغاير تماماً للحقيقة، فيوسف عليه السلام امتلك من الثقة بنفسه وقدراته ما جعله يطلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض فقال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) أثبت الحفظ والعلم في حقه! لا يوجد شخص في هذه البسيطة يجيد معرفتك معرفة حقيقية سوى نفسك، أنت من يعرفها حقيقة وأنت من يقيّمها في المواقف وأنت من يعطيها وصفاً مختصراً عنها وعن إمكانيتها وقدراتها، نحن لو تأملنا حقيقة ذواتنا لأدركنا حقيقة أننا لسنا أسماء فقط فالأسماء حقيقتها مجرد ملصقات استعملناها لكي لا نبقى طوال الوقت ننادي بعضنا ب"يا هذا ويا ذاك"! إنها طريقة لتحديد الجسد والعقل فقط. فنحن لسنا أسماء ولسنا رقم الهوية ولا رقم الجواز ولا رقماً سرياً، نعم نحن نفس بشرية يقول الخالق - عز وجل - عنها: (قد أفلح من زكاها) أي من أصلحها وهذبها وأقامها على الطريق الصحيح الذي لا عوج فيه ولا أمتا! إن الوعي بذواتنا وقدراتنا أمر لازم لكل إنسان وبعبارة أبسط، الوعي الذاتي هو معرفتك لحالاتك الداخلية، ومعتقداتك ونقاط قوتك ومواهبك وتفضيلاتك ومصادرك التي تعتمد عليها وحدسك، فاذا عرفت ذلك تحديداً سيكون من السهل عليك التعامل مع المواقف غير المتوقعة. نعم أنت لست رقماً ولست رجلاً آليا ولا ريبوتا يتم التحكم فيه بضغط زر، بل خلقك الله لتتشكل وتتغير لأنه خلقك في هيئة طينية قابلة للتعلم والاكتساب والاعتزاز والافتخار بنفسك. نعم أنت مجرد مخلوق مثل النملة مثل النحلة، فضلك الخالق بعقل يتعلم يبدد الظلام ويضيء الحياة بالنور، الخالق شكلك وفصلك لتعبده وتصنع حياة وطريقاً لنفسك لا أن تكون تابعاً رقمياً يعيش مكسور الجناح بدون وعي وإدراك لأهميته في الحياة، بل قد أعطاك الله العقل ليخلفك في الأرض فتعمرها وتصلحها لا لتهدمها وتفسدها.