ما الذي نفعله اليوم بالشعر؟، هذا الشيخ الجليل المهاب المتوثّب دائما لتقويم ألسنتنا، والمتحفز للتداخل في كل حجَجنا القولية، وخطاباتنا الإقناعية، ما الذي نخافه منه، وما الذي جعله أقرب إلينا مما نريد دائما..؟ يقال إننا في عصر رقمي لا يحتمل الشعر ولا يتحمّله، ثم تتسابق قنواتنا الرقمية على نشره وتداوله ويتهافت القاصي والداني لادعائه، ويقال إننا في عصر المال فيتزاحم أصحاب المال على شراء الشعر والشاعر معاً وبالتالي التغوّل أكثر وأكثر في فقر الشعراء وعوزهم، لماذا لا يكتفي الشعر بذاته والشاعر بقصيدته، لماذا تعتم حياة الشعراء وحرفتهم الضوء، الأهم من هذا لماذا يسفّه البعض الشعر بين حين وآخر ثم يقتاتونه على موائد الحضور، وتلوكه ألسنتهم حد إرغامه على اعوجاجها في كثير من الأحيان؟ يا لها من أسئلة لا تزيدني إلا يقينا بالشعر.. نعم الشعر الذي لم يتبقّ له من رخام المدن التي تتربص بها متطلبات الواقع، غير عصافير مسالمة في شجيرات غريبة، ويمامات دجّنتها المدينة، تستيقظ مع الضوء لتنفق صباحاتها المتثاقلة بجمع أعواد القش الشحيح لبناء أعشاشها في غصون محمومة بالرقص، أو في ردهات رخامية آيلة للغبار. ومع كل صباح يحاول أن يأخذني ذلك الشعر - كأنما وحدي - من زمني، كي أسأله كم قشّة سقطت من منقار عصفور هذا الصباح، يحاول بناء عشه في شرفة آيلة للرياح، وكم من يمامة غادرت ردهة نافذتي الموصدة دائماً باتجاه شارعٍ يعج بالطواحين؟! أتساءل بلكنة المنكسر وادعاء الولاية والاحتواء، دون البحث عن إجابة بل إنني أقول لصمتي الشعري.. هو الشعر اليوم غريب في حاضره، قريب من ذاكرته، لكننا لا نتكئ عليه إلا حجّة بغير إرادته، ولا نبحث عنه إلا لنتسلقه إلى رفٍّ جديد في مكتبة يومنا التي لا تعبأ به! لست خائفاً على الشعر ولا مؤبناً له، ولا حتى متوجساً من نعمته علي، لكنني مشفق على أرواحنا حين يتيتّم الحنين بموته، ويتقابح الجمال بفقده. لا أخاف عليه من كينونته حين أتساءل ما الذي سيتبقّى في كون أرواحنا إذا لم يكن الشعر أكرم زائريها وأنبلهم؟! قلت دائماً إن الشاعر حين تكون غايته قصيدته سيخلو بها في مختبره الجمالي ليركب ويحلل يجرّب ويجرب، يبكي غناءً ويحزن تاريخًا ويقرأ غيبًا، ثم يخرج منه أو من عمره وقد ترك رحلته كلها في ذمة التاريخ، نعم في كل زمان ومكان سيبقى الشعر رحلة لا تبدأ ولا تنتهي نحو الجوهر الإنساني المشعّ والحارق، رحلةٌ لا يشرع فيها إلا من نذر روحه بخورًا بملامسته، ومن يفعل كل هذا لن يلتفت لنظريات أو محاذير، أو حتى تهميش، أقل بكثير من انتشار روحه بخورًا في كل الأزمنة والحضارات.