إنّ الذي يجعل هذا التساؤل ضرورياً هو رؤيتنا للوفود السياسية الأوروبية تجوب دول العالم رغبةً في تعزيز علاقاتها الدولية التي تراجعت خلال العقود الماضية، ورغبةً في توقيع الاتفاقات الاقتصادية، وتوقيع العقود الصناعية بعوائد مالية ضخمة.. ألِفت واعتادت أوروبا أن تكون مِحوراً رئيسياً ومُحركاً صلباً لمُجريات وأحداث السياسة الدولية لثلاثة قرون متتالية ابتداءً من 1648م وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، وهذه الُألفة وذلك الاعتياد للتفوق الأوروبي لم تكسره مآسي الحرب العالمية الثانية، ولم تزحزحه عن مكانته قواعد البنيان الدولي الجديد ثنائي القطبية الذي ساد لخمسة عقود متتالية قبل أن يتحول لنظام دولي أحادي القطبية في 1991م. وبهذا الانتصار والتفوق الأيديولوجي للرأسمالية، والليبرالية، والديمقراطية، الغربية - بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية -، تعززت لدى أوروبا روح الهيمنة المُستوحاة من التاريخ، واشتدت الرغبة في تعظيم المنافع كما كانت في زمن الاستعمار، وارتفعت الأصوات المعظمة من القيم والمبادئ الأوروبية والحضارة والثقافة الغربية على ما سواها من قيم وحضارات وثقافات. نعم، لقد تملك الأوروبيون الغرور كاملاً حتى أنهم اعتقدوا أنهم محور السياسة العالمية ومركز القرارات الدولية، كما ألِفوا وكما اعتادوا ظناً منهم أن الانتصار الأيديولوجي انتصاراً لسياساتهم، وأن التفوق الغربي تفوقاً للقيم والحضارة والثقافة الأوروبية، وأن الهيمنة الأميركية عنوان لهيمنة أوروبا مُجدداً على السياسة الدولية. نعم، هكذا اعتقد الأوروبيون، وعلى هذه الظنون بنوا سياساتهم وخططهم، واعتمدوا استراتيجياتهم ومناهج أعمالهم، حتى أصبحت دليلاً لتصرفاتهم، ومرشداً لسلوكياتهم، وطريقاً لممارساتهم، إنه الاعتقاد الذي بُني على عمق الشراكة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة - القطب الأوحد - حتى تمكن من تحفيز الرغبات الأنانية، وقيادة السلوكيات السلبية، وتنشيط الممارسات الفوقية، واستعادة روح السياسات الاستعمارية، التي بدورها جعلت أوروبا تتصرف مع المجتمع الدولي وكأنها هي القُطب الأوحد وليس الولايات المُتحدة، وجعلت أوروبا تعتقد أنها محور السياسة العالمية وليس الولاياتالمتحدة، وجعلت أوروبا تظن أن المجتمع الدولي يسعى لها دون غيرها من الأمم. نعم، لقد تمكنت الظُنون من أوروبا بعد العام 1991م حتى قادتها للغرور المُطلق لعقدٍ من الزمان أثر تأثيراً سلبياً على سياساتها وتعاملاتها وتصرفاتها وعلاقاتها الدولية مع أطراف المجتمع الدولي حتى أنها خسرت كثيراً في غفلة الغرور المُطلق. وعندما بدأت الظنون تنجلي قليلاً بعد العام 2001م نتيجة لتناقض كثير من السياسات الرئيسية مع الولاياتالمتحدة، أصرَّت أوروبا على مواصلة غرورها لتستمر بسياساتها السلبية وتصرفاتها الفوقية مع أطراف المجتمع الدولي حتى ازدادت خسائرها السياسية وبدأت تتأثر علاقاتها الدولية مع حلفائها التاريخيين. وعندما بدأت أوروبا تُدرك - إلى حدٍ كبير - بعد العام 2011م أنها ليست محور السياسة الدولية، وإنما الولاياتالمتحدة، وبأن المجتمع الدولي لا يسعى لها ولا يتطلع لمواقفها وإنما للولايات المتحدة، أظهرت أوروبا تبعيتها للسياسة الأميركية وإن لم تُعلن ذلك صراحةً، وواصلت أوروبا تأييدها للسياسة الأميركية وإن تناقضت مع مصالحها، لتبدوا بإرادة سياسية مسلوبة، ومصالح دولية محدودة أو مفقودة، وعلاقات دولية مرتبكة. وعندما أيقنت أوروبا تماماً بعد العام 2021م أنها تابعة لحركة السياسة الدولية وليست مُحركاً لها، وبأنها في حاجة ماسة للتقارب مع المجتمع الدولي لخدمة مصالحها والمحافظة على ما تبقى منها، وبأنها في حاجة للتواصل وتعزيز علاقاتها الدولية التي تراجعت، بدأت أوروبا تُعيد رسم سياساتها بما يتناسب مع حقيقة مكانتها الدولية في الوقت الراهن. هكذا كانت السياسة الأوروبية تِجاه المجتمع الدولي حيث تميزت بالغرور والفوقية واللامبالاة خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهكذا تظهر عليه في وقتنا الحاضر حيث تبدو مُتصالحة مع نفسها، ومتواضعة في لغتها، ومتقاربة مع أطراف المجتمع الدولي.. فهل فعلاً استفاقت أوروبا متأخراً؟! إن الذي يجعل هذا التساؤل ضرورياً هو رؤيتنا للوفود السياسية الأوروبية تجوب دول العالم رغبةً في تعزيز علاقاتها الدولية التي تراجعت خلال العقود الماضية، ورؤيتنا للوفود الاقتصادية والصناعية الأوروبية تطرق أبواب دول العالم رغبةً في توقيع الاتفاقات الاقتصادية وتوقيع العقود الصناعية بعوائد مالية ضخمة، ورؤيتنا للشركات الأوروبية تعرض مشروعاتها الاستثمارية طمعاً في الحصول على فرص استثمارية متعددة ومتنوعة، ورؤيتنا للوفود الثقافية والأكاديمية والفكرية والإعلامية الأوروبية تجوب دول العالم مدافعةً عن سياسات ومواقف دولها، ومسوقةً لمنتجات وصناعات مجتمعاتها، وعارضة لمخرجات ثقافاتها وحضاراتها بكل إيجابية. نعم، إننا نشاهد حراكاً أوروبياً غير مسبوق في جميع المجالات وفي كل الاتجاهات وعلى جميع المستويات حتى بدأت أوروبا بشكل جديد في سياساتها وكأنها القارة التي تنشر السلام على مدى تاريخها، وفي اقتصاداتها وصناعاتها واستثماراتها وكأنها القارة التي بنت الدول والمجتمعات في أفريقيا وآسيا على مدى تاريخها، وفي شعاراتها الأمنية والعسكرية، وكأنها القارة التي حررت العالم من الاستعباد والظلم والاستبداد والاستعمار، وفي لغتها الإعلامية، وكأنها القارة التي تنادي بالعدالة والمساواة والسلام العالمي بين مختلف الثقافات والحضارات والأمم، وفي خطاباتها للمجتمع الدولي، وكأنها القارة المؤيدة لحق تقرير المصير للشعوب المظلومة التي سُلبت ممتلكاتها واغتُصبت أراضيها ودُمِرت ثقافتها وحضارتها. نعم، هكذا هي أوروبا في وقتنا الحاضر مُسالمة، مُتواضعة، داعية للعدالة والمساواة، وكأنها ليست أورُوبا ذات التاريخ الاستعماري بكل صفاته وسماته البغيضة.. فهل هذا يعني تغييراً حقيقياً في سياسة أوروبا؟ إننا إذا أمعنَّا النَّظر في هذا التحول الكبير في سياسة ومنهج وسلوك أوروبا تجاه المجتمع الدولي، نرى أنه تحول آني حدث كردة فعل للحالة الصَّعبة جداً التي وصلت لها الحياة الأمنية والاجتماعية والمادية في أوروبا نتيجة للصراع القائم بين روسيا الاتحادية وجمهورية أوكرانيا، وكردة فعل للحالة الصَّعبة جداً التي أصبحت عليها أوروبا نتيجة نقص امدادات الطاقة نتيجة للعقوبات المفروضة - خاصة من الولاياتالمتحدة - على مُنتجات روسيا الاتحادية من النفط والغاز، وكردة فِعل للحالة الصعبة جداً التي ظهرت عليها العلاقات الأوروبية بعدم تمكُنها من الحصول على تأييد مُطلق لسياساتها ورغباتها من حلفائها في المجتمع الدولي. نعم، إن أوروبا تمر بحالة صعبة جداً في سياساتها، واقتصاداتها، ومجتمعاتها، وأمنها القاري، وعلاقاتها الدولية المُرتبكة، ووحدتها الأوروبية المُهددة، وقدراتها العسكرية غير المُتكافئة مع أعدائها، ولُغتها الإعلامية المُتناقضة والمُتأزمة والمُتأرجحة، ومكانتها الدولية المُتراجِعة. إنَّ هذه العوامل المتعددة قد تُفسر أو تشرح - إلى حدٍ ما - التحول الآني، أو اللحظي، الذي حدث في سياسة وسلوك أوروبا تجاه المجتمع الدولي - وخاصة تجاه حلفائها التاريخيين -، إلا أنها لا تجزم بإمكانية استمرار هذا التحول من عدمه. وفي الختام من الأهمية القول إن على أوروبا قِراءة واقع السياسة الدولية وما تعيشه من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية وثقافية وحضارية لتتمكن من المحافظة على ما تبقى لها من مكانة دولية خاصة مع حلفائها التاريخيين، ولتستطيع التغلب على التحديات المُتصاعِدة التي جعلت منها قارة بائسة تواجه الازمات باستسلام وتبعية مُطلقة. فإما أن تستفيق أوروبا من غفلتها وتُوَدِع أوهامها وتتخلى عن غُرورها الذي أوصلها لحالة البُؤس التي هي عليها الآن، وإما أن تُواصل سُباتها وغُرورها الذي اعتادت عليه، وتعيش في ظل تاريخها الإمبراطوري القديم حتى تتهدم أركانها المتبقية.