تميزت سياسة المملكة العربية السعودية عبر الزمن بالاتزان والوضوح والصدق وعدم الرضوخ في غير مصالحها العليا وما يخدم شعبها؛ وبحكم إنتاجها الضخم ومخزونها الكبير من الطاقة اكتسبت قوة سياسية واقتصادية ومكانة عالمية، عبّر عن ذلك في حوار سابق الأمير والدبلوماسي العريق بندر بن سلطان بن عبدالعزيز: إن مجرد خفض إنتاج النفط أو رفعه يمكن أن يؤثر على انتخاب الرئيس الأمريكي من عدمه، والعالم كله يدرك أن الولاياتالمتحدة هي القوة الكبرى في العالم اليوم، وهذا وحده كافياً بأن يظهر وزن وثقل المملكة العربية السعودية. كان هذا تصريح الأمير بندر بن سلطان في عام 2005م ويتكرر المشهد اليوم في ظل الأزمة العالمية للطاقة وزيادة الطلب الأوروبي والأمريكي عليها بسبب تداعيات حرب أوكرانيا. عبّر الرئيس الأميركي جو بايدن عن خيبة أمله بعدما أعلنت دول مجموعة أوبك+ على تخفيضات حادة في إنتاج النفط لتتقلص الإمدادات في السوق التي تعاني بالفعل من شح المعروض، وهذا يعني احتمالية أن يزيد ارتفاع أسعار البنزين قبل انتخابات التجديد النصفي في الولاياتالمتحدة الأميركية والمقرر عقدها في نوفمبر والتي يدافع فيها إعلان اليسار الأميركي والديمقراطيون بزعامة الرئيس الأميركي جو بايدن عن أغلبيتهم في مجلسي النواب والشيوخ. وحينما رد سمو وزير النفط والطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز معلقاً على سؤال مراسلة شبكة CNBC: «هل خفض الإنتاج يستحق تعريض العلاقة الأمريكية السعودية للخطر؟!» أثناء دخول سموه لمقر اجتماع أوبك في فيينا قبيل إعلان قرار المجموعة بخفض إنتاج النفط فردّ سموه قائلاً: «إنه يوم مشمس، وسيبقى مشمساً»! ثارت ثائرة وحنق إعلام اليسار الأمريكي أكثر وتفجّر غضباً وهجوماً وادعاءات على قرار مجموعة أوبك زاعماً أن السعودية تسيّس النفط وظلّ الديمقراطيون يحاولون إقناع الرأي العام الأمريكي أن سبب ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم في أمريكا هي السعودية! رغم أن تصريحات وزير النفط والطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان ذلك الخبير المخضرم في الطاقة والإنتاج النفطي السعودي لعقود متلاحقة؛ وقد اتسمت تصريحاته المهذبة وتلميحاته الذكية بأن الوضع في التعامل مع الدول المنتجة للنفط يخضع لمصالح الدول المنتجة أولاً وقبل أي اعتبار آخر، ولهذا فإن خفض الإنتاج يتبع السياسة الاقتصادية للبلاد المنتجة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فقد فشل الأمريكيون ومن معهم من الأوروبيين في استعادة الثقة لدى حلفائهم السعوديين رغم إعطاء القيادة السعودية الفرص الكثيرة أمامهم لإعادة رسم علاقات الصداقة والمصالح المشتركة. ورغم تصريح أمين أوبك بأن اتفاق أوبك+ ليس سياسياً؛ فتعامل أوبك+ مع النفط هو من خلال منظور وميزان اقتصادي وليس لبعد أو اصطفاف سياسي، فأمن طاقة العالم واستدامتها هما مسؤولية العالم أجمع وليسا مسؤولية تحملها على عاتقها دول أوبك+ بمفردها، فضلاً على أن القرار لا تنفرد به السعودية أو دولة واحدة من دول مجموعة أوبك بمفردها فهو قرار جماعي باتفاق المجموعة كلها والتي بفضل سياساتها كان النفط الأقل ارتفاعاً بين جميع السلع رغم موجة التضخم العالمية الشرسة. هذا ما يعني أن خفض إنتاج النفط هو لاستدامة السوق العالمية وليس لرفع الأسعار عن قصد على أميركا أو على دولة بعينها، وهذا ما ذكره الوزير عادل الجبير في لقائه الأخير والذي ظهر فيه على قناة فوكس نيوز، وأكد أن سبب ارتفاع الأسعار هو بسبب العجز الأمريكي في بناء مصافي التكرير. المفارقة السياسية المضحكة أن إعلام اليسار أو الديمقراطيين الذين يغضون النظر عن ارتفاع أسعار الغاز الأمريكي والذي تصدره واشنطن لأوروبا بأربعة أضعاف سعره قياساً بما قبل جائحة كورونا والعقوبات على روسيا مما جعل الرئيس الفرنسي ماكرون معاتباً واشنطن وكذلك وزير الاقتصاد الألماني والذي قال: أميركا تطلب منا أسعاراً خيالية لبيع الغاز لتعويض الغاز الروسي ولكن إعلام اليسار يغض النظر عن هذا تماماً! «السعودية لا تسيّس النفط؛ النفط ليس سلاحاً، النفط ليس طائرة مقاتلة أو دبابة، نحن ننظر إلى النفط كسلعة وننظر إلى النفط باعتباره مهماً للاقتصاد العالمي. فكرة أن السعودية ستفعل ذلك لإلحاق الضرر بالولاياتالمتحدة ليست صحيحة إطلاقًا»، بهذه الكلمات والتصريح الذي أدلى به لقناة فوكس نيوز قطع عادل الجبير الطريق على كل ذلك الإعلام اليساري الانتهازي الذي حاول بائساً استغلال قرار أوبك+ بخفض إنتاج النفط لأجندة السياسة، وهذا ما عُهِد عن السعودية وسياستها فمنذ تأسيس المملكة وهي تختار أصدقاءها، لكنها لا تختار أعداءها فهي معتدلة دبلوماسياً، تستهدف مصالحها ومصالحها أولاً وتحرص على حماية مصالحها، وإن الراصد والمدرك لتاريخ السياسة السعودية ودبلوماسيتها الحكيمة يعلم جيداً أنها ليست سياسةً نفسية تقوم على الأحقاد والانتقام، فالدولة الحكيمة من تقوم سياستها على بعد النظر ودقة الرؤية والفصل ولا يمكن أن تكون غوغائية أو عاطفية في خياراتها واتجاهاتها ولا في مواقفها وردود أفعالها!