حين قرر رئيس دولة بحجم أميركا وهي أكبر قوة في العالم بامتياز، زيارة المملكة في شهر يوليو الماضي، فإن صناع القرار في الإدارة الأمريكية، أيقنوا أنّ التحولات في النظام الدولي والتوازنات العالمية، بدأت تميل لغير مصلحة الولاياتالمتحدة، وأي تفكير في إعادة النظر في العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء في المنطقة وعلى رأسها المملكة، يعني توجه بوصلة الحلفاء تجاه روسيا والصين والهند، وهذا في الحقيقة ما حدث قبيل تفكير واشنطن العودة للرياض. تنويع العلاقات كون المملكة وضعت في اعتبارها تنويع علاقاتها مع الشرق والغرب، والأهم وضع مصالحها الأمنية الاستراتيجية العليا فوق أي اعتبار. لقد انتهجت الإدارة الأمريكية الديمقراطية منذ وصلها للسلطة، سياسة مختلفة تجاه حلفائها في المنطقة، مع الأخذ بالاعتبار غلبة رؤية الاتجاه التقدمي في الحزب الديمقراطي والأخذ بتوجهاته، والذي يدعو إلى ما يسمى بتعزيز قيم الديمقراطية ومزاعم حقوق الإنسان، وتخفيض الوجود العسكري في المنطقة، والعودة للاتفاق النووي مع إيران، وإعادة ضبط العلاقات الأمريكية مع دول الخليج، بما يخدم مصالحها وقيمها، وليس وفق المصالح المشتركةُ، كما كانت في العهود السابقة، وهذا حق سيادي، من حقوق أي دولة ترغب في إعادة رسم سياساتها مع الحلفاء والأعداء، ولكن على حساب سيادة القرار. الحزب الديمقراطي والتوازنات ويبدو أن واشنطن الديمقراطية المذهب، مع توجهات الحزب التقدمية، لم تستطع إيجاد التوازن المطلوب خلال الفترة الماضية، في ضبط بوصلة العلاقة، بين الدولة التي تعتبر أكبر منتجة للنفط في العالم، والدولة التي تعتبر أكبر قوة عسكرية في العالم، ووضع الشراكة الاستراتيجية، التي تعود إلى 8 عقود في ميزان المصلحة الاستراتيجية، بمنأى عن الحسابات الحزبية، خصوصا أن العلاقة بين السعوديين والأمريكيين لم تعد قائمة على مبدأ النفط مقابل الأمن، وهذا ما ذكرته سمو سفيرة المملكة في واشنطن، الأميرة ريما بنت بندر، قبيل زيارة الرئيس بايدن للمملكة مؤخرا، والتي كانت تهدف لعودة الإدارة الأمريكية إلى حلفائها، كون الابتعاد لن يكون في مصلحتها على الصعيد الاستراتيجي، على الأمدين المتوسط والبعيد. ويؤكد الخبراء أن زيارة بايدن إلى المملكة كانت مدفوعة بهدفَين رئيسَين: إقناع المملكة بزيادة إنتاجها النفطي، ومحاولة ايجاد مقاربة بين إسرائيل والمنظومة العربية المعتدلة، بعد الفشل في إحياء الاتفاق النووي مع إيران، مقرونًا بالغزو الروسي لأوكرانيا، وتداعياته الاقتصادية الكارثية على واشنطن واوروبا، ولم تنجح إدارة بايدن في تحقيق الهدفين. إدارة ديمقراطية غيرت أولوياتها لقد أُرْغمت إدارة بايدن على تغيير أولوياتها، وأصبحت المملكة جراء العقوبات التي فُرِضت على روسيا، أكثر أهمية للاقتصاد العالمي من أي وقت مضى، وقد أدّت هذه العقوبات – لا سيما تلك المفروضة على قطاع الطاقة الروسي – إلى زيادة غير مسبوقة في أسعار النفط والغاز، ما ساهم بدوره في الارتفاع الشديد في معدلات التضخم الولاياتالمتحدة وأوروبا، فضلا عن ارتفاع البنزين الطاقة. تدني معدلات التأييد الشعبي ويتُرجم ذلك بتدني معدلات التأييد الشعبي التي يحققها الرئيس بايدن في استطلاعات الرأي، ما قد يؤدي حتى إلى خسارة الأكثرية الديمقراطية الحالية في الكونغرس، بعد الانتخابات النصفية في نوفمبر. وليس هناك رأيان أن المملكة والولاياتالمتحدةالأمريكية تتمتعان بشراكة استراتيجية، امتدت لأكثر من ثمانية عقود تدعمها المصالح المشتركة بينهما، رغم أن هذه العلاقات شهدت مدا وجزرا. وحرص خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد، على وضع إطار شامل لترسيخ الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وتوطيدها في مختلف المجالات للعقود القادمة، مع الأخذ في الاعتبار أن الولاياتالمتحدة هي أكبر شريك تجاري للمملكة، والمستثمرين الأمريكيين من أوائل وأكبر المستثمرين فيها، الى جانب التعاون العسكري والدفاعي ومكافحة الإرهاب. رؤى متوافقة ومشتركة كما أن البلدين يشتركان في رؤية متوافقة تجاه العديد من القضايا الدولية والإقليمية، حيث يعملان معا من خلال المكانة التي يحظيان بها على تحقيق الاستقرار، حيث يعملان على ردع سلوكيات إيران المُزعزعة لأمن واستقرار المنطقة والعالم، ومنعها من إنتاج قنبلة نووية، تجنيبًا للمنطقة من سباق تسلح سيكون الخاسر فيه أمنها واستقرارها. وأسهمت متانة العلاقات بين البلدين في تجاوز البرود الذي مرت به في بعض الأوقات، حيث لم يؤثر ذلك في المصالح الاستراتيجية المشتركة بينهما، وذلك بفضل حكمة قادة الدولتين، التي حرصت كل الحرص على مصلحة الشعبين والبلدين. المعطيات الجيوستراتيجية إلا أن المملكة تتعامل في ظل المعطيات الجيوستراتيجية الجديدة في المنطقة والعالم، وفق مصالحها النفطية والسياسية العليا، ولا يمكن أن تكيف سياساتها السيادية وقرارها المستقل، لمصلحة فوز الديموقراطيين في الانتخابات النصفية المقرر عقدها في الثامن من نوفمبر، كون المملكة لا تتدخل في شؤون اي دولة، وهي تعمل وفق منظومة عالمية تحترم القوانين والاعراف الدولية. التحرك وفق منظومة وعندما تحركت المملكة في إطار منظومة أوبك + فإنها وضعت في الاعتبار مصالح المنظومة، وسياسات استقرار أوضاع السوق البترولية، كونها لا ترغب ولا تريد ولا تهدف فرض رؤيتها على المنظومة، كونها تعمل في إطار مسؤولياتها كأكبر دولة منتجة للنفط لها وعليها التزامات، ومسؤوليات في عالم الطاقة وهو ما أشار إليه سمو وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان بشفافية، أنه "أولاً وأخيراً يهمنا مصالح السعودية، ثم مصالح الدول التي وثقت بنا، وكانت ولا تزال أعضاء في أوبك وتجمع أوبك بلس". وأضاف: أن "أوبك" ترعى مصالحها "ومصالح العالم لأن لدينا مصلحة في دعم تنمية الاقتصاد العالمي، وتوفير الطاقة بطريقة مثلى. القرارات جماعية وعندما أعلنت منظومة أوبك + قرارها بخفض إنتاج أوبك بمعدل مليوني برميل، فان هذا القرار كان جماعيا ولمصلحة استقرار أسواق النفط، وليس لدعم أي دولة او العمل ضدها بهدف إفشالها في انتخابات نصفية، أو الانحياز لروسيا كما زعم البيت الأبيض مؤخرا. واتهامات الإدارة الامريكية المجانية أن بعض أعضاء أوبك + لهم سياسات عدائية، ضد واشنطن على حد قولها، غير صحيحة، وهو ما دحضه سمو وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان في حينه.. وجاء رد وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، على مزاعم إدارة بايدن للسعودية، بدعم روسيا سياسياً بعد قرار "أوبك+"، مؤكداً أن بلاده "لا تسيس" هذه القضية، وأن ارتفاع الأسعار في أميركا ناتج عن "نقص في التكرير". ضعف البنية التحتية للمصافي ويؤكد المراقبون الأمريكيون أن ضعف البنية التحتية للمصافي الأمريكية، وعدم تحديثها منذ عقود، يعتبر سبب رئيس في ارتفاع البنزين في الداخل الأمريكي، مشيرين أن اتهام دول أوبك+، ما هو إلا تغطية لعدم نجاح الإدارة الأمريكية، لملفات النفط الداخلية، إلى جانب التضخم غير المسبوق الذي تشهده أمريكا، كون هذا الفشل لا علاقة لدول أوبك+ به لا من قريب أو من بعيد. الإعلام الأمريكي والمصداقية ومن الواضح أن الإعلام الغربي وتحديدا الأمريكي في حملته الدعائية، بسبب الحرب الأوكرانية وقضايا النفط، أفقده ما تبقى من المصداقية لديه، كونه لا يقتصر على التعبئة في حرب معنوية، لكنه يقلب حقائق كثيرة بعضها أقرب للحسابات الرياضية، التي تحتمل التأويل ومبالغات التضليل الإعلامي. فلم يتناول الإعلام الأمريكي قصور ادارته الديمقراطية، لضعف البنية لمصافي التكرير النفطية، ولم يشر إلى أن واشنطن هي أكبر مستفيدة من أزمة العالمية، بيد أنه شن حملته على منظمة تحالف "أوبك +"، حتى قبل قرارهم بخفض الإنتاج بمعدل مليوني برميل يوميا. وكان الأهم والأخطر في تلك الحملة الدعائية الفجة، الترويج على مزاعم أن المملكة وروسيا اتفقتا على سياسة إنتاجية تبقي أسعار النفط فوق مئة دولار للبرميل، وهو ماجاء على لسان البيت الأبيض لاحقا تحت مزاعم الانحياز باتجاه روسيا، كون ذلك مستحيلا ولو افترضنا جدلا، في ظل اضطراب الأسواق النفطية الحالية، وتوقعات الركود الاقتصادي العالمي والحزم القادمة من العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، خاصة فيما يتعلق بصادرات موسكو النفطية، وأزمة الغار الروسي وتفجير خط نورد ستريم الغامض وتفجير جسر القرم الذي اعتبره الرئيس بوتين بأنه عمل إرهابي، فضلا عن تجاهل الإعلام الأمريكي اليساري حجم استفادة أميركا من الحرب الأوكرانية الروسية، كونها أضحت أكبر دولة مستفيدة في أزمة الطاقة العالمية. تقارب ووجهات نظر لقد شهدت العلاقات الأمريكية – السعودية على امتداد العقود الستة الماضية، حالات تقارب وتباعد وفق رؤية الطرفين لمصالحهما، واعتماداً على الظروف السائدة في البيئتين السياسيتين الإقليمية والدولية. إن تجسيد العلاقات الأمريكية – السعودية في صيغة معادلة النفط مقابل الأمن، لم يعد موجود في الأجندة، فالنفط وحده لا يمكن أن يفسر السبب الذي أدى إلى صياغة هذه الشراكة، حتى وإن كان هذا المفهوم موجود في فترات قديمة، فإن المعادلات الجيو- ستراتيجية العالمية تغيرت جذريا. وبخلاف الاعتقاد الشائع، لم تكن العلاقات بين الرياض و واشنطن في حاله وئام أو وفاق دائم، وشهدت منعطفات سياسية هامة، إلا أنها ظلت استراتيجية، كونها تعتمد على شراكة سياسية واقتصادية وعسكرية مستدامة، رغم اختلاف قراءة البلدين للأحداث والتغيرات الإقليمية والعالمية المتلاحقة، كون الاختلاف والاتفاق سمة للسياسة والشراكة في خارطة العلاقة الدولية. -