بروح مفعمة بالإصرار والنظرة الاستشرافية، كتب المزيني رواياته في وقت قياسي، لم يؤثر على لغة السرد الذي أحبه، وصار لعبته المفضلة، عازماً أن يكون في الموعد، وسط بحر متلاطم من السُراد الحكائين الذين يغلب على أعمالهم الركاكة، رغم أن بينهم مميزون يوصفون بكتاب الظل، فأراد أن يبرز منافسيه بتميز لم يجلبه من علاقات شللية أو اتكاءات مباشرة على ثيمة محذورات القص الروائي بمثلثه الشهير الدين والجنس والسياسة. فما كان منه إلا أن أعلن تمرده على شخوصه، فارضاً سطوته عليهم بقسوة الراوي العليم المخاتل، فلا يعاملهم كدمى تحركها الأيادي، بل أرواحا فاعلة وكيانات تنبض بروح الشغب الذي أفنى جل وقته في اقتناصه ورصده بحرفية بالغة، ولغة بعيدة عن التكلف والابتذال كما في "يعقوب عرق بلدي" و"تالا" و"أم صنات" على سبيل المثال لا الحصر، شخصيات أظن أن المزيني محمد وفِق فيها وعالجها بخيط سرد لا ينفلت منه لحظة واحدة، وإن بدت رواياته ليست في مستوى واحد، وهذا يحدث مع كبار الروائيين، فليس ما في مفارق العتمة مضاه لضرب الرمل. أنا هنا أتكلم عن إنسان أراد أن يكتب بحرية منضبطة، تنأى به عن الإسفاف والخوض في المستهلكات. فطرح مشروعه السردي بجرأة ووضوح، وهو يدرك أنه بشر يصيب ويخطئ، لكنه لا يتسامح على من يتجرأ على فن السرد ويقحم فيه أعمالاً مشبوهة بالسرقة الأدبية، أو القص واللصق كما يحلو له أن يسميه. علاقتي بالروائي محمد المزيني قوية، وأخشى أن تكون شهادتي فيه مجروحة، فقد استفدت من تجربته، وإن اختلفت معه في أمور أخرى. رحلة طويلة لأعمال روائية جميلة، كتبها سردا بنفس روائي طويل، وبلغة محرضة على التساؤلات، وهو ما تميز به، فجاءت إحدى ثمارها أن جُسدت في عمل درامي، لم يكن طويلاً بالقدر المطلوب ليحوي مفاوز ثلاثية ضرب الرمل، والتي لم يعجبني فيها اسم البطل في شخصه ولا مشخصه، مع جل تقدير للفنان خالد عبد الرحمن. ولم يكن فرح المزيني بهذا الإنجاز عارماً يخالطه الغرور، بقدر ما هو تحقق تفوقه الروائي على آخرين قد يغارون منه إلى درجة الحسد. فنحن هنا أمام كاتب ثر النتاج أهمله النقاد المحليين عن قصد لأن تناول أعماله، هو نسف لكثير من أعمال محلية أخرى وإن متت إلى السرد بصلة إلا أنها مدعومة من قبل آخرين يهوون التطبيل لفئة لا يريدون أن يتجاوزهم أحد في مشهدنا الروائي. ما يميز المزيني أيضا وجوده وحضوره، فهو عندما يكتب يترك كل شيء وراء ظهره، فيأتي عمله رصيناً مفعماً بأحداث جميلة، وذلك لأن الفكرة لا تمكث في رأسه طويلا فهو سريع القرار في وأدها أو إحيائها، لذلك قد تجده يكتب أكثر من عمل في وقت واحد، حرصاً على الفكرة أن تبهت واللغة أن تتلاشى وهذه الميزة متوفرة بجلاء عند المشاهير أذكر منهم على سبيل الحصر القصيبي -رحمه الله-. أعمال المزيني كثيرة وعناوينه متفاوتة بين الطول والقصر، فمثلا تجد (مفارق العتمة - أكليل الخلاص - عرق بلدي - ضرب الرمل ) عناوين روايات قوية ضاربة ومتلائمة في المتن وعدد الصفحات. وختاماً قد أكون استفضت في الحديث عن المزيني، ونعته بالسارد المتمرد، وإني أتراجع عن ذلك، لأنه يستحق لقب السارد المتفرد، على الأقل في محيطه المحلي. *كاتب وقاص سعودي